محمد بن الحسن بين الجرح والتعديل

 

المديح
سير أعلام النبلاء (9|136): قال إبراهيم الحربي: قلت للإمام أحمد: «من أين لك هذه المسائل الدقاق؟». قال: «من كتب محمد بن الحسن».
ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي يقول: «حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي (أي مقدار ما يحمله جمل من الكتب)، ليس عليه إلا سماعي». وقال المزني: سمعت الشافعي، يقول: «أَمَنُّ الناس عليّ في الفقه محمد بن الحسن».
فهذا نص مهم عن استفادة الشافعي كثيرا من طريقة ابن الحسن بتأليف كتب الفقه، وقد ذكرنا قبل ذلك قريبا منه عن ابن حنبل. وقد ذكر عن ابن سراج الملقب بالشافعي الثاني أنه فَرَّعَ على كتب محمد بن الحسن. وكذلك أسد بن الفرات أخذ الفقه عن ابن الحسن، ثم ذهب إلى ابن القاسم المالكي فسأله عن رأي مالك بتلك المسائل، وأخذها عنه سحنون، صاحب المدونة التي هي أساس الفقه المالكي، ثم عرضها على ابن القاسم. وبذلك ترى أن المذاهب الأربعة عيال في تفريع مسائل الفقه على ابن الحسن.

قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (6|107): «وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك».
قال علي بن محمد بن الحسن المالكي: أنبأنا عبد الله بن عثمان الصفار قال: أنبأنا محمد بن عمران بن موسى الصيرفي قال: نبأنا عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه قال: وسألته عن أسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ومحمد بن الحسن؟ فضعف أسداً والحسن بن زياد، وقال: «محمد بن الحسن صدوق».
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي قال عن محمد بن الحسن: «دخلت عليه، فرأيت عنده كتاباً، فنظرت فيه، فإذا هو قد أخطأ في حديث وقاس على الخطأ. فوقَفته على الخطأ، فرجع، وقطع من كتابه بالمقراض عدة أوراق». قلت: هذا يدل على إنصافه وإرادته للحق.
قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: «أقمت على مالك ثلاث سنين، وسمعت من لفظه سبعمئة حديث» (وفي رواية ثمانمئة). قال ابن حجر: «وكان مالك لا يحدث من لفظه إلا نادراً». أقول: إنما كان مالك يطلب من أحد تلامذته أن يقرأ عليه. فهذا النص يدل على شدة ملازمة محمد بن الحسن لمالك. فقد لزمه أكثر من ثلاثة سنين. بينهما لزم الشافعي مالكاً حوالي ثمانية أشهر فقط.
قال أبو بكر بن المنذر: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: «ما رأيت سميناً أخف روحاً من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه. كنت إذا رأيته يقرأ، كأن القرآن نزل بلغته. حمل جمل من العلم».
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: «حملت عن محمد وقر بعير كتباً». وقال الشافعي: «لو أشاء أن أقول أن القرآن نزل بلغة محمد بن الحسن، لقُلته، لفصاحته». وقال الشافعي: «ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن». وقال الشافعي: «ما ناظرت أحداً إلا تَمَعَّرَ وجهه، ما خلا محمد بن الحسن». أقول: هذا يدل على قوته في المناظرة.
وقال الربيع بن سليمان كذلك: وقف رجل على الشافعي، فسأله عن مسألة، فأجابه. فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، خالفك الفقهاء. فقال له الشافعي: «وهل رأيت فقيهاً قط؟ اللهم إلا أن تكون رأيت محمد بن الحسن. فإنه كان يملئ العين والقلب. وما رأيت مُبدِناً قط أذكى من محمد بن الحسن».
قال حرملة بن يحيى: نبأنا محمد بن إدريس الشافعي قال: «كان محمد بن الحسن الشيباني إذا أخذ في المسألة، كأنه قرآن ينزل عليه: لا يُقدِّمُ حرفاً ولا يُؤَخِّر».

ونقل الكاساني في البدائع عن أحمد بن حنبل قوله: محمد أبصر الناس بالعربية. ونقل عن الأخفش: ما وضع شيء لشيء قط فوافق ذلك الشيء إلا كتاب محمد بن الحسن، فإنه وافق كلام الناس. يريد أنه موافق للعربية. وكان ثعلب يقول: محمد عندنا من أقران سيبويه.
قال الجصاص في "الأصول" (1|30): «محمد بن الحسن حجة فيما يحكيه من اللغة. قد احتج به قوم من أئمة اللغة، منهم أبو عبيد في "غريب الحديث" وغيره. وحُكيَ لنا أن ثعلب قال: "محمد بن الحسن حجة في اللغة"».

وفي "توالي التأسيس" (ص71) من طريق أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: «كنت في دهليز محمد بن الحسن فخرج محمد راكباً، فنظر فرأى الشافعي قد جاء، فثنى رجله ونزِلَ وقال لغلامه: اذهب فاعتذر. فقال له الشافعي: لنا وقت غير هذا. قال: لا. وأخذ بيده فدخلا الدار. قال أبو حسان: وما رأيت محمداً يعظّم أحداً إعظام الشافعي».
قال المعلمي في "التنكيل": «ومن تدبّر مناظرات الشافعي لمحمد، وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهداً كاملاً، وأن محمداً كان –مع مكانته من الفقه والسن والمنزلة من الدولة وكثرة الأتباع– على غاية من الإنصاف في البحث والنظر. والإنصاف: أنه كان لتلك المناظرات أثرٌ في الرجلين، فاتفقا على مسائل رجع فيها الشافعي عما كان يتابع فيه مالكاً، أو رجع محمد عما كان يتابع فيه أبا حنيفة».
قال ابن حجر في "رواة الآثار" (ص163): «وتكلم فيه يحيى ابن معين، فيما حكاه معاوية بن صالح. وعظّمه أحمد (!)، والشافعي قبله. وكان من أفراد الدهر في الذكاء. وعظمت منزلته عند الرشيد جداً. ولما مات وهو معه، وكذلك الكسائي بالري قال: "دفنت الفقه والعربية بالري"».
وقال ثعلب: «توفي الكسائي ومحمد بن الحسن في يوم واحد. فقال الناس: "دُفِنَ اليوم اللغة والفقه"».
قال البرقاني في سؤالاته (ص63): سألت أبا الحسن الدارقطني عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فقال: «قال يحيى بن معين: "كذاب". وقال فيه أحمد -يعني بن حنبل- نحو هذا. قال أبو الحسن: "وعندي لا يستحق الترك"». والدارقطني هو الذي يذكر محمد بن الحسن في عداد الثقات الحفاظ حيث يقول في "غرائب مالك" عن حديث الرفع عند الركوع: «حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وابن وهب وغيرهم». تجد نص هذا النقل عنه في "نصب الراية" (1|408). حيث قرن محمد مع الحفاظ الثقات الأثبات.

 

الذم في رأيه
القاعدة فيمن تعارض به الجرح والتعديل أن الجرح لا يُقبل إلا مفسّرا، فننظر هل ذكروا سببا حقيقيا لطعنهم بمحمد بن الحسن؟
قال أحمد بن حفص: سمعت أبا بكر الأعين يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «لا تكتب عن أحد منهم ولا كرامة لهم». يعني أصحاب أبي حنيفة.
وقال ابن حماد: حدثني عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي صاحب أبي حنيفة، قال: «لا أروي عنه شيئاً».
أقول: ما أظن أن أحمد قد امتنع عن الرواية عن أصحاب أبي حنيفة، إلا لخلافه معهم في الرأي. حتى قال لإبنه كما في الجرح والتعديل عن أبي يوسف: «صدوق، ولكن من أصحاب أبي حنيفة، لا ينبغي أن يُروى عنه شيء!».
قال ابن أبي حاتم (7|227): انا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال: سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي قال: «لا أروي عنه شيئاً».
وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: «كان أبو يوسف مُنصِفاً في الحديث. وأما محمد بن الحسن وشيخه (أبو حنيفة) فكانا مخالفين للأثر». (هذا خلاف فقهي)
وقال علي بن أحمد بن سليمان: ثنا بن أبي مريم: سألت أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن، فقال: «ليس بشيء، ولا يكتب حديثه».
قال محمد بن أبي علي الأصبهاني: أنبأنا الحسين بن محمد الشافعي بالأهواز قال: أنبأنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري قال: وسألته -يعني أبا داود السجستاني- عن محمد بن الحسن الشيباني فقال: «لا شيء، لا يكتب حديثه».
محمد بن الحسين القطان قال أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال نبأنا أبو العباس سهل بن أحمد الواسطي (؟؟) قال نبأنا أبو حفص عمرو بن علي الصيرفي (الفلاس) قال: «محمد بن الحسن صاحب الرأي ضعيف».

 

الذم في حفظه
وقال الأحوص بن الفضل العلائي، عن أبيه : «حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان».

وقال البرقاني (#567) سألت الدارقطني عن أبي يوسف فقال: «هو أقوى من محمد بن الحسن».
وقال السلمي (#302) قال الدارقطني: «أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، في حديثهما ضعف».
أحمد بن محمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن سعد العوفي (ضعيف) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «محمد بن الحسن كذاب».
عباس الدوري (3|364)، عن يحيى قال: «محمد بن الحسن الشيباني ليس بشيء».
أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدواليبي (حنفي فيه كلام)، ابن حماد، ثنا معاوية بن صالح (جيد)، عن يحيى قال: «محمد بن الحسن بغدادي ضعيف».
أحمد بن عبد الله الأنماطي قال: أنبأنا محمد بن المظفر الحافظ: انا علي بن أحمد بن سليمان المصري قال: انا أحمد بن سعيد بن أبي مريم قال: وسألته -يعني ابن معين- عن محمد بن الحسن فقال: «ليس بشيء فلا تكتب حديثه».
علي بن أحمد (بن سليمان البزار المعروف بعلان، جيد) ثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم (جيد) قال: يحيى بن معين: «اجتمع الناس على طرح هؤلاء النفر، ليس يذاكر بحديثهم ولا يعتد بهم، منهم محمد بن الحسن».
وذكره العقيلي في "الضعفاء". وقال: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة (ثقة)، سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «جهمي كذاب».
ومن طريق أسد بن عمر (لم أعرفه وكأنه تصحيف) وقال: «هو كذاب».
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري قال: سئل يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الشيباني فقال: «ليس بشيء».
أخبرني عبد الله بن يحيى السكري قال: أنبأنا محمد بن عبد الله الشافعي قال: ثنا جعفر بن محمد بن الأزهر قال: ثنا بن الغلابي (المفضل بن غسان الغلابي) قال: قال يحيى بن معين: «محمد بن الحسن ليس بشيء».
قال العتيقي حدثنا تمام بن محمد بن عبد الله الأذني أخبرنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي قال سمعت نصر بن محمد البغدادي (مجهول) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «كان محمد بن الحسن كذاباً وكان جهمياً، وكان أبو حنيفة جهمياً ولم يكن كذاباً».
وقال عباس الدوري عن ابن معين: «كتبت "الجامع الصغير" عن محمد بن الحسن». وقد درس ابن معين الفقه على أبي يوسف، وبقي له محباً، حتى أن الذهبي بالغ فجعل ابن معين من الحنفية الغلاة. وقد حدث خلاف وتنافس بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن على زعامة الأحناف، فهذا سبب حمل ابن معين الشديد على محمد. وأما التكذيب فالمقصود به الخطأ في نسبة الرأي إلى أبي يوسف (كما سيأتي). وأما التجهم فالمقصود به الإرجاء (كما سيأتي).
وقال عمرو بن علي: «ضعيف».
وكذلك قال النسائي.
الجنيدي، ثنا البخاري، قال أحمد بن عبدة (ثقة)، عن عبدان، سمعت منصور بن خالد (مجهول) يقول: اطلعت إلى محمد بن الحسن، سمعته يقول: «لا ينظر أحد إلى كلامنا يريد به الله». قال: «فاكتفيت بذاك منه». أقول: هذا كذبة باهتة.
قال ابن عدي (6|174): «ومحمد بن الحسن هذا، ليس هو من أهل الحديث، ولا هو ممن كان في طبقته يعنون بالحديث، حتى أذكر شيئاً من مسنده. على أنه سمع من مالك الموطأ. وكان يقول لأصحابه: "ما رأيت أسوأ ثناءً منكم على أصحابكم، إذا حدثتكم عن مالك ملأتم علي الموضِع. وإذا حدثتكم عن غيره تجيئوني متكارهين". وإنما أراد به أبو حنيفة وأصحابه. والاشتغال بحديثه شغل لا يحتاج إليه، لأنه ليس هو من أهل الحديث فينكر عليه. وقد تكلم فيه من ذكرنا. وقد استغنى أهل الحديث عما يرويه محمد بن الحسن وأمثاله». أقول: إنما استغنوا عنه لخلافهم معه في الرأي. وأما حديثه فلم يستطع ابن عدي أن يأتي بما يثبت ضعف محمد بن الحسن فيه. وهذا موطأه عن مالك يشهد له بالإتقان.
ذكر حمزة بن إسماعيل الطبري (كذاب)، عن محمد بن أبي منصور (ليس بذاك)، عن أبي نعيم قال: قال أبو يوسف: «محمد بن الحسن يكذب علي».
قرأت على الحسن بن أبي بكر عن احمد بن كامل القاضي قال أخبرني أحمد بن القاسم عن بشر بن الوليد (صدوق أصابه الخرف) قال: قال أبو يوسف: «قولوا لهذا الكذاب -يعني محمد بن الحسن-: هذا الذي يرويه عني، سمعه مني؟».
قال أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب: أنبانا محمد بن حميد المخرمي قال: نبأنا علي بن الحسين بن حبان قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: قال أبو زكريا -يعنى يحيى بن معين-: سمعت محمد بن الحسن صاحب الرأي، وقيل له: «هذه الكتب سمعتها من أبي يوسف؟». فقال: «لا والله، ما سمعتها منه. ولكني من أعلم الناس بها. وما سمعت من أبي يوسف إلا "الجامع الصغير"». أقول: هذا مما يكذب القصة الأولى، لأن محمد بن الحسن يخبر الناس بأنه لم يسمع من أبي يوسف إلا "الجامع الصغير" (وهو الذي كتبه عنه ابن معين).

قال الكوثري: «نعم، سبق أن كَذَّب أبو يوسف محمداً في مسائل عزاها إليه. ولما بلغ الخبر محمداً قال: "كلا، ولكن الشيخ نسي". ثم تَبَيَّنَ أن قول محمد هو الصواب».

 

الذم في عقيدته
كا محمد ن لا يرى الخوض في الآيات والأحاديث التي جاءت في صفات الله، وكان يأخذ بها دون تفسير أو تأويل كما هو مذهب السلف الصالح. لكنه بالجملة كان كلامه عن الفقه، ولم يكن يحب علم الكلام ولا الدخول بجدال الفرق. ونقل عن محمّد أن أبا حنيفة قال: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام، قال محمّد: وكان أَبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام.
أحمد بن محمد بن غالب قال: حدثني محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك الأدمي قال: نبأنا محمد بن علي الأيادي قال: نبأنا زكريا الساجي قال: «محمد بن الحسن كان يقول بقول جهم وكان مرجئاً». أقول: يقال كان محمد بن الحسن تبعاً لشيخه أبي حنيفة ولشيخ شيخه حماد بن أبي سليمان، وكلهم من مرجئة الفقهاء، وخلافهم مع باقي أهل السنة خلاف لفظي كما قال الذهبي بترجمة حماد. بخلاف أبي يوسف القاضي، الذي التزم بألفاظ السلف.
الحسن بن أبي الحسن قال: حدثني محمد بن شاذان، ثنا إسحاق بن راهويه، سمعت يحيى بن آدم يقول: «كان شريك لا يجيز شهادة المرجئة. فشهد عنده محمد بن الحسن، فلم يجز شهادته. فقيل له: "هذا محمد بن الحسن". فقال: "أنا لا أجيز شهادة من يقول الصلاة ليست من الإيمان"». أقول: كان شريك شيعياً جلداً، وكان محمد بن الحسن أحسن منه، حتى لو كان مرجئاً.
محمد بن الحسين بن محمد المتوثي قال" أنبأنا أحمد بن عثمان بن يحيى الأدمي قال: نبأنا محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي قال: سمعت أحمد بن حنبل، وذّكَرَ ابتداء محمد بن الحسن فقال: «كان يذهب مذهب جهم». وقد روي هذا القول بلفظ قريب: «كان محمد بن الحسن في الأول يذهب مذهب جهم». وهذا يدل على أنه كان يذهب مذهب جهم ثم رجع. والظاهر أن المقصود هو بدعة الإرجاء، مع الفارق الكبير بين مرجئة الفقهاء وبين مرجئة الجهمية.
البرقاني قال: نا يعقوب بن موسى الأردبيلي قال: نبأنا أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي قال: نبأنا سعيد بن عمرو البرذعي قال: سمعت أبا زرعة يعنى الرازي يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف سليماً من التجهم». قلت: كانوا يطلقون التجهم على الإرجاء تخويفاً للناس منه. لكن جاء في سؤالات البرذعي المطبوعة (1|570): سمعت أبا زرعة يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف جهمياً بين التجهم». وهذا لا شك أنه غلط، فلم يكن أبو يوسف مرجئاً.
أبو طالب عمر بن إبراهيم بن سعيد الفقيه قال: نا محمد بن العباس الخزاز قال: نا أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب (ثقة) قال: نا أبو النصر إسماعيل بن ميمون العجلي قال: حدثني عمي نوح بن ميمون (ثقة) قال: «دعاني محمد بن الحسن إلى أن أقول القران مخلوق، فأبيت عليه. فقال لي: "زهدت في نصفك". فقلت له: "بل زهدت في كلك"». قلت: هذه أسطورة لا أصل لها. وقد قرَّر أبو جعفر الطحاوي عقيدة محمد بن الحسن، في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة (العقيدة الطحاوية المشهورة). وكان لا يرى الصلاة خلف من قال القرآن مخلوق، كما في "مختصر العلو" (ص113). ويأمر من صلَّى خلف من يقول: "القرآن مخلوق"، بالإِعادة، كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة (2|277). وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن، كما في المصدر السابق (2|271).

عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي يذكر، أن خيثمة بن سليمان القرشي (الطرابلسي) أخبرهم قال: نبأنا سليمان بن عبد الحميد البهراني (ناصبي اتهمه النسائي بالكذب) قال: حدثنا عبد السلام بن محمد (الحضرمي) قال: سمعت بقية (شديد التدليس) يقول: قيل لإسماعيل بن عياش: «يا أبا عتبة. قد رافق محمد بن الحسن يحيى بن صالح من الكوفة الى مكة». قال: «أمَا أنه لو رافق خِنزيراً كان خيراً له منه». قلت هذه بذاءة يُجلّ عنها ابن عياش، ولا يصح الإسناد إليه.
روى اللالكائي في "أصول السنة" عن محمد بن الحسن قال: «اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله
r في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه. فمن فسّر اليوم شيئاً من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي r وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا و لم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب و السنة ثم سكتوا». قلت: وهذا والله إجماع صحيح وهذا هو مذهب السلف الصالح، فأين ما ينسبونه للتجهم؟ إنما يقصدون الإرجاء فحسب. والحق يقال أنه ليست بأيدينا نصوص رويت عن الإمام محمّد ويمكن أن تدل صراحة على موقفه من المرجئة، وليس لدينا إلا أقوال من خصومه. فإن الراجح أن هذا الإمام لم يؤمن بما آمنت به هذه الفرقة. فمن زعم أن مرجئ فليأتنا بقول صريح منه يثبت إسناده، وهذا لا يوجد أبدا.
 

الخلاصة

يظهر مما سبق أن محمد بن الحسن ثقة في مالك، فضلاً عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وأما عن غيرهم فربما فيه لين، ويكتب حديثه ويعتبر به. وليس له من الحديث المرفوع في الكتب الستة، لكن له كتب آثار مقبولة، وإن كان أكثر ما فيها عن أبي حنيفة عن حماد، وقد عرفت حالهما. وأما عقيدته فسلفية. وأما في الفقه فقد كان ضليعاً به، منصفاً، محباً للمناظرة، وإن كان قد أفرط في الرأي وفي دقائق الأمور.