الإمام الشافعي وانتشار مذهبه

 

نشأ الإمام الشافعي القرشي المطلبي في مكة، وكان غاية في الفصاحة. وتفقه على يد فقهاء مكة، وكان يقرأ القرآن بحروف ابن كثير مقرئ أهل مكة (وقراءته هي قراءة متواترة). ثم رحل إلى المدينة فتفقه على الإمام مالك حتى وفاته. وسافر إلى العراق مرتين، ودرس الفقه الحنفي من الإمام محمد بن الحسن الشيباني (صاحب أبي حنيفة)، وتناظرا هناك وتصاحبا. كما لقي عدداً من أهل الحديث الكبار كالإمام أحمد بن حنبل. وبعد أسفار طويلة، استقر الشافعي في مصر بعدما ذهب إليها من بغداد عام 199 هـ مع أميرها العباس بن عبد الله بن العباس. وهناك بدأ في تقوية بناء مدرسته، فهاجم مالكاً لتركه الأحاديث الصحيحة لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهوراً، ويقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده. وأنكر عليهم تركهم بعض الأخبار لأنها غير مشهورة، وعملهم بأحاديث لم تصح لأنها مشهورة في الكوفة.

 

فاستاء منه المالكيون وأخذوا يبتعدون عنه، لأنه أخذ يغير آراءه القديمة التي كان يقول بها سابقاً –والتي كانت موافقة لرأي شيخه مالك في الغالب– ويرسم مكانها رأيه الجديد المتخذ على ضوء القياس المخلوط بالأثر. وبعد أن كان الشافعي ينتصر لمالك في بغداد، فإنه خالفه وانتقده في مصر. يروي ابن عبد البر في كتابه "جامع العلم" أن الشافعي قال: «قدمت إلى مصر، ولم أكن أعرف مالك يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثاً. فنظرته وإذا به يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل»! وهذا يؤكد ما قلناه أن مالكَ لم يكن له مذهب وأصول واضحة يلتزم بها.

 

كما وجد الشافعي أن المالكية يتعصبون بشدة لمالك ويقدمونه على رسول الله r والعياذ بالله. قال البيهقي (كما في توالي التأسيس ص147): «إن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك (أي في الرد على مالك) لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستسقى بها. وكان يقال لهم: "قال رسول الله". فيقولون: "قال مالك". فقال الشافعي: "إن مالكاً بَشَرٌ يخطئ". فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه».

 

ثم ألف الإمام الشافعي كتاباً يرد به على الإمام مالك وفقهه، فغضب منه المالكيون المصريون بسبب الكتاب وأخذوا يحاربون الشافعي، وتعرض للشتم القبيح المنكَر من عوامهم، والدعاء عليه من علمائهم. يقول الكندي: لما دخل الشافعي مصر، كان ابن المنكدر يصيح خلفه: «دخلتَ هذه البلدة وأمرنا واحد، ففرّقت بيننا وألقيت بيننا الشر. فرّقَ الله بين روحك وجسمك» (القضاة للكندي ص428). واصطدم كذلك بأحد تلاميذ مالك المقربين ممن ساهم بنشر مذهبه في مصر، وهو أشهب بن عبد العزيز. وكان أشهب يدعو في سجوده بالموت على الإمام الشافعي. وروى ابن عساكر عن محمد بن عبد الله بن عبدِ الْحَكَمِ أَنَّ أَشْهَبَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ أَمِتْ الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَهُ اِنْدَرَسَ مَذْهَبُ مَالِكِ". وروى ذلك ابن مندة عن الربيع أنه رأى أشهب يقول ذلك في سجوده. ثم قام المالكية بضرب الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات حتى تسبب هذا بقتله –رحمه الله–، وعمره 54 عاماً فقط، ودُفن بمصر. ومن ثم قام تلامذته بنشر فقهه.

 

ومن المفيد هنا، الإشارة لمصطلحي الفقه القديم والفقه الجديد عند الشافعي. فالقديم هو ما كتبه في الحجاز والعراق. والجديد هو ما كتبه في الأربع سنين التي أقام بها بمصر (199-204هـ)، حيث غيّر كثيراً من اجتهاداته، وأعاد تصنيف كتبه. والتف حوله عدد من تلامذته المصريين ، فحملوا عنه هذه الاجتهادات، ورووا عنه تلك الكتب. منهم البويطي والمزني والربيع. ويتمثل المذهب الجديد في كتبه المصرية نحو "الأم" في الفقه، و"الرسالة" الجديدة، وغيرها. جاء في مناقب الإمام الشافعي للبيهقي (1|263): قيل لأحمد بن حنبل: فما ترى في كتب الشافعي، التي عند العراقيين أحب إليك أم التي عند المصريين؟ قال : «عليك بالكتب التي وضعها بمصر. فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك».

 

والمفترض نظرياً أن كلامه الجديد هو الذي يعتمد لأنه رجع عن كلامه القديم. لكن الشافعية سردوا بضعة مسائل فقط في القديم ورجحوها على الجديد. والمسائل التي رجح فيها الشافعية القديم على الجديد سردها السيوطي في "الأشباه والنظائر".  والمذهب القديم شبيه نوعاً ما بمذهب مالك وبمذاهب الحجازيين كابن عيينة. أما مذهبه الجديد فقد حصل بعدما اطلع على أحاديث كثيرة وغير مبدأه بأن لا يعمل إلا بالحديث الحجازي، وصار يعمل بأي أثر  يصححه أهل الحديث. ففي القديم لا أمُرّ له على قولٍ، إلا وقد وجدت قبله من قال به. وأما في الجديد فله مسائل خالف فيها إجماع من قبله.  قال ابن حزم في "الإحكام" (4|574): «وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمئة مسألة خالف فيها الإجماع». وطبعاً هذا ماشٍ على مذهب الطبري في أن الإجماع هو اتفاق الجمهور، مع مخالفة الأقل. وفي هذا تساهل سبق الحديث عنه. وقد أحصى الجوهري في "نوادر الإجماع" 44 مسألة خالف فيها الإجماع. وهذا -وإن كان بعضه لا يسلم له- فكثير منه صحيح.

 

امتاز الإمام الشافعي عن باقي الأئمة، بتدوينه كتب المذهب بنفسه. كما أنه يعتبر عند جمهور المحققين، أول من كتب في أصول الفقه وشرحها. واعتنى بالقواعد الكلية أكثر من الفروع الفقهية، حيث يرى أن مالكاً أفرط في رعاية المصالح المرسلة، وأبا حنيفة قَصَرَ نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مراعاة القواعد والأصول. وقام بمصر بإعادة تنقيح كتب المذهب، كما أكثر فيها من مناقشة الخصوم بالحجج والبراهين. وحاول أقصى جهده أن يمزج بين مدرستي الحجاز والعراق، كما حاول أن يمزج بين مدرسة الرأي ومدرسة الأثر. قال الإمام أحمد (كما في ترتيب المدارك 1|91): «ما زلنا نلعن أهل الرأي (الحنفية) ويلعنونا، حتى جاء الشافعي فمزج بيننا». ولذلك تبنى أكثر علماء الحديث مذهب الشافعي. وانتشر مذهبه من خراسان إلى مصر، منافساً مذهبي أبي حنيفة ومالك. حيث تبنته الدولة السلجوقية، وقامت بإنشاء المدارس النظامية، حيث حرص الوزير "نظام الملك" أن يتولى التدريس في تلك المدارس فقهاء شافعية لكن من الأشعرية فقط. وكان الغالب على أهل الشام مذهب الأوزاعي، حتى ولي قضاء دمشق أبو زرعة محمد بن عثمان (ت 281هـ)، فأدخل إليها مذهب الشافعي، وحكم به وتبعه من بعده من القضاة، وكان يهب لمن يحفظ مختصر المزني مئة دينار، فما زال ينتشر بها إلى المئة الرابعة حيث اختفى مذهب الأوزاعي.

 

ولعل أكثر من نشر مذهبه هو أبو العباس القاضي بشيراز، صنف نحو أربعمئة مصنف، ويلقب بالباز الأشهب، أخذ الفقه عن أبي قاسم الأنماطي وعن أصحاب الشافعي، كالمزني وغيره، وعنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق. قال ابن خلدون في "مقدمته" (ص448): «وأما الشافعي، فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها. وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار، وعظمت مجالس المناظرات بينهم، وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره».

 

إلا أن مذهب الشافعي انحسر في المشرق، بعد الهجمة المغولية من قِبَل جنكيز خان وهولاغو. حيث قام التتر بتصفية العرب وسلالاتهم من تلك البلدان، وأبادوا الكثير من الفرس كذلك في بلاد ما وراء النهرين. فبقي الأتراك هناك على مذهب أبي حنيفة. ثم نشأت الدولة  الصفوية في إيران، حيث أبادت أهل السنة بالحديد والنار. وقامت لعدة قرون بارتكاب مجازر فظيعة ضد أهل السنة في فارس والعراق، مما تسبب بحرب مع الخلافة العثمانية. ففرض الترك المذهب الحنفي في شمال ووسط العراق (ما عدا جبال كردستان)، وفرض الصفويون المذهب الشيعي الإمامي في فارس وجنوب العراق. وبذلك اختفى المذهب الشافعي من تلك البلاد.

 

كذلك انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة، إلى أن ذهبت دولة العبيديين (أو الفاطميين كما يسمون أنفسهم) على يد صلاح الدين الأيوبي. وكان صلاح الدين كردياً شافعياً، فتبنى المذهب وعيّن القضاة منه. فرجع إليهم فقه الشافعي، فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه. وانتشر أيام الدولة الأيوبية في الشام ومصر والحجاز واليمن. واشتهر منهم محي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام، وعز الدين بن عبد السلام أيضاً. ولولا صلاح الدين لكاد مذهب الشافعي ينقرض. ثم انتشر من اليمن –عبر تجارة البحر– إلى شرق إفريقيا وجنوب الهند، ثم وصل –بعد عدة قرون– إلى إندونيسيا وماليزيا، حيث قام أهل اليمن بنشر الإسلام هناك. ثم إنه تراجع تدريجياً من الجزيرة العربية، على حساب المذهب الحنبلي، الذي تبنّته الدولة السعودية.

 

ويتركز الفقه الشافعي –اليوم– في مصر، وجنوب الشام، واليمن، وشرق إفريقيا، وكردستان، وفي جنوب شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا).

قال الإمام الذهبي في "زغل العلم": «الفقهاء الشافعية أكيس الناس، وأعلم من غيرهم بالدين. فأس مذهبهم: مبني على اتباع الأحاديث المتصلة. وإمامهم من رؤوس أصحاب الحديث، ومناقبه جمة. فإن حصلت يا فلان مذهبه لتدين الله به وتدفع عن نفسك الجهل، فأنت بخير. وإن كانت همتك كهمة إخوانك من الفقهاء البطالين الذين قصدهم المناصب والمدارس والدنيا والرفاهية والثياب الفاخرة، فماذا بركة العلم ولا هذه نية خالصة، بل ذا بيع للعلم بحسن عبارة وتعجل للأجر وتحمل للوزر وغفلة عن الله».