بحث تواتر القراءات القرآنية

 

نقلة القراءات من الصحابة

الصحابة الذين نقل القراء العشرة قراءتهم عنهم: عثمان وعلي (من قريش) وعبد الله بن مسعود (الهذلي) وأُبَيّ بن كعب وزيد بن ثابت (من بني النجار من الخزرج) وأبو الدرداء (الخزرجي) وأبو موسى (الأشعري اليماني). قال الذهبي في معرفة القراء الكبار (1|42): «فهؤلاء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي r، وأُخِذَ عنهم عرضاً، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة. وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة كمعاذ بن جبل وأبي زيد وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر وعتبة بن عامر، ولكن لم تتصل بنا قراءتهم. فلهذا اقتصرت على هؤلاء السبعة رضي الله عنهم». فلدينا أربع لهجات فقط: لهجة قريش، ولهجة الخزرج، ولهجة هذيل، ولهجة الأشاعرة.

 

قال الزركشي في "البرهان" (1|334): «قال أبو عمرو الداني في المقنع: أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعله على أربع نسخ وبعث إلى كل ناحية واحداً، الكوفة والبصرة والشام وترك واحداً عنده. وقد قيل: أنه جعله سبع نسخ وزاد إلى مكة وإلى اليمن وإلى البحرين. قال: والأول أصح وعليه الأئمة». ويقول السيوطي في "الإتقان" (1|132): «أُختُلف في عدة المصاحف التي أَرسلَ بها عثمان إلى الآفاق. المشهور أنها خمسة (!). وأخرج ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات قال: أرسلَ عثمان أربعة مصاحف. قال أبو داود: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فأرسل إلى مكة، والشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدنية واحداً».

 

ولم يكتف عثمان –رضي الله عنه- بإرسال المصاحف إلى الأمصار، وإنما بعث مع كل مصحف واحداً من الصحابة أبو التابعين يقرئ من أرسل إليهم المصحف. وغالباً ما كانت قراءة هذا الصحابي توافق ما كتب به المصحف. فقيل أنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري. وهذا –لو صح– يرجح الرواية التي تنص على أن النسخ كانت خمسة لا سبعة.

 

هل يشترط التواتر لكل قراءة؟

تواتر الأحرف التي تفردت بها بعض القراءات محل خلاف بين العلماء. وأما علماء السلف فلم يتعرضوا لقضية التواتر أصلاً. وهذا شيء مهم، فإذا لم ينص علماء السلف على تواتر بعض الأحرف التي شذ بها حفص، فلا يقبل من متأخر أن يدعي تواترها إلا بالدليل الصريح، وهو متعذر. وقد اختلف العلماء من بعدهم في مسألة التواتر إلى خمسة أقوال:

1.   القراءات ليست متواترة بل هي آحاد. وهو قول المعتزلة.

2.   القراءات العشر فيها المتواتر، وغيره. وهو رأي الشوكاني في "إرشاد الفحول". وهو الصواب إن شاء الله. وقد نقله ابن الجزري في "النشر" عن الأئمة.

3.   أنها متواترة فيما ليس من قبيل الأداء. وهو قول ابن الحاجب وقد تبعه بعض الأصوليين، وهو ما صححه ابن خلدون في "المقدمة".

4.   القراءات السبع متواترة عن القراء لا عن النبي r. وهو قول الزركشي في "البرهان"، وأبي شامة في "المرشد"، ونُقِلَ عن الطوفي.

5.   الخامس: القراءات العشر متواترة إِلى رسول الله r. وهو قول أكثر المتأخرين.

 

واشترط مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) في "الإبانة عن معاني القراءات" (ص18) في وجه صحة القراءة: «أن ينقل عن الثقات إلى النبي r، ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعاً، ويكون موافقاً لخط المصحف». وقال كذلك: «وإنما الأصل الذي يعتمد عليه في هذا: أن ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق خط المصحف، فهو من السبعة المنصوص عليها، ولو رواه سبعون ألفاً متفرقين أو مجتمعين. فهذا هو الأصل الذي بنى عليه في قبول القراءات».

 

 وهكذا نرى أن الفكر الذي كان يشيع في القرون الأربعة الأولى لا يشترط التواتر في سند القراءة المقبولة، لكن يشترط صحة السند فقط. وبهذا استدل أبو القاسم النويري (شارح الطيبة)، وعلي النوري الصفاقسي (صاحب "غيث النفع في القراءات السبع") ومن تبعهما، على أن مكياً ممن يرون "صحة السند" لا "التواتر" شرطاً في قبول القراءة. لكنه يشترط موافقة الشائع من اللغة العربية، وهذا فيه نظر.

 

إذ نجد الداني يعتبر القراءة سنة لا تخضع لمقاييس لغوية، وإنما تعتمد الأثر والرواية فحسب. فلا يردها قياس، ولا يقرّبها استعمال. فيقول: «وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل. وإذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية، ولا فشو لغة. لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها». وما أبداه الداني لا يخلو من نظر أصيل. إذ القراءة إذا كانت مشهورة صحيحة السند، فهي تفيد القطع، ولا معنى لتقييد القطع بقياس أو عربية. فالعربية إنما تصحح في ضوء القرآن، ولا يصحح القرآن في ضوء العربية. والنحويون يحتجون بأبيات شعر جاهلي يرويه أعراب مجاهيل. فما بالك بما ثبت أن الرسول r قد قرأ به؟ أما موافقة رسم المصحف العثماني (ولو احتمالاً) فهذا محل إجماع تقريباً. لأن ما خالف رسم مصحف عثمان، ليس من العرضة الأخيرة.

 

قال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز": «ما شاع على ألسنة جماعة من متأخري المقرئين وغيرهم، من أن القراءات السبع متواترة. ونقول به فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء السبع، دون ما اختُلِفَ فيه. بمعنى أنه نفيت نسبته إليهم في بعض الطرق. وذلك موجود في كتب القراءات، لا سيما كتب المغاربة والمشارقة، فبينهما تباين في مواضع كثيرة. والحاصل أنّا لا نلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء. أي بل منها المتواتر، وهو ما اختلفت السابق على نقله عنهم. وغير المتواتر، وهو ما اختلف فيه بالمعنى السابق. وهذا بظاهره يتناول ما ليس من قبيل الأداء، وما هو بقبيله».

 

قال الزركشي في "البرهان" (1|319) عن القراءات السبعة: «أما تواترها عن النبي r، ففيه نظر. فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، ولم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة. وهذا شيء موجود في كتبهم. وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز" إلى شيء من ذلك».

 

قال الإِمام ابن الجزري في "النشر" (1|18): «كل قراءة وافقت العربية –ولو بوجه–، ووافقت أحد المصاحف العثمانية –ولو احتمالاً–، وصح سندها: فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها... هذا هو الصحيح عند الأئمة». ثم قال -رحمه الله-: «وقولنا "صح سندها": إِنما نعني به أن يروي العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي. وتكون مع ذلك مشهورة –عند أئمة هذا الشأن الضابطين له– غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم. وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند. وزعم أن القران لا يثبت إِلا بالتواتر، وأن مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا لا يخفى ما فيه. وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف، انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم. ولقد كنت أجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده».  هذا ما ذكره الإِمام في نشره، وأجمله في نظمه الموسوم بـ"طيبة النشر في القراءات العشر" حيث قال:

فكل ما وافق وجه نحوى * وكان للرسم احتمالاً يحوى

وصح إسناداً هو القران * فهذه الثلاثة الأركان

وحيثما يختل ركن أثبت * شذوذه لو أنه في السبعة

 

وقد تحرر للسيوطي مع المقارنة فيما كتبه ابن الجزري في النشر، أن القراءات أنواع:

الأول: المتواتر، وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه، وغالب القراءات كذلك.

الثاني: المشهور، وهو ما صح سنده، ولم يبلغ درجة التواتر، ووافق العربية والرسم واشتهر عند القراء.

الثالث: الآحاد، وهو ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر بالاشتهار المذكور، ولا يقرأ به.

الرابع: الشاذ، وهو ما لم يصح سنده.

الخامس: الموضوع.

السادس: ما زيد في القراءات على وجه التفسير.

والصواب عندي: أن الثالث والرابع والخامس نوع واحد (شاذ). وأحياناً يكون تفسيراً، وغالباً لا يكون صحيحاً.

 

قال الحافظ ابن الجزري (ت833 هـ): «ونحن ما ندعي التواتر في كل فرْدٍ مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق. لا يدّعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر؟ وإنما المقروء به عن القراء العشرة على قسمين: متواتر، وصحيح مستفاض متلقى بالقبول، والقطع حاصل بهما».

 

وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص63): «وقد ادُّعِيَ تواتر كل واحدة من القراءات السبع، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر. وادعي أيضا تواتر القراءات العشر، وهي هذه مع قراءة يعقوب وأبي جعفر وخلف. وليس على ذلك أثارة من علم! فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة نقلا آحادياً، كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء لقراءاتهم. وقد نقل جماعة من القراء الإجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر وفيها ما هو آحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحدة من السبع فضلا عن العشر، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول. وأهل الفن أخبر بفنهم».

 

فالذي عليه المحققون أنه لا يشترط التواتر لأنه لا دليل على اشتراطه، ولأن النبي r كان يبعث آحاد الصحابة لتعليم القرآن، وكانوا يسمعون الآية من الصحابي فيعملون بها ويقرؤون بها في صلواتهم. وكذلك لا تشترط موافقة القراءة الصحيحة الثابتة للمشهور في اللغة العربية. فقد نزل القرآن بسبعة ألسن. وليس بالضرورة أن تكون هذه الألسن السبعة كلها مشهورة عندنا. وما اشتهر عند قبيلة، قد لا يشتهر عند أخرى. والله أعلم.

تحقيق التواتر في جميع الطبقات

إن أسانيد القراءات تنقسم حالياً إلى أربعة أجزاء:

 
الجزء الأول: من المعاصرين إلى ابن الجزري. وهذا متواتر بلا شك. فأسانيد العالم الإسلامي إلى ابن الجزري اليوم بالآلاف. ولكن يظل لدينا إشكال، وهو أن ابن الجزري شخص واحد، وجميع أسانيد القراءات العشرة المتصلة بالسماع والعرض اليوم تلتقي عند ابن الجزري ثم يبدأ تفرعها من عنده أيضاً، فكيف تكون متواترة في طبقة ابن الجزري؟ وحل هذا الإشكال من وجهين:

1) أن تلاميذ ابن الجزري وهم كثيرون قد قرؤوا بالقراءات العشر على غير ابن الجزري، كما هو مدون في تراجمهم. ولو أن ابن الجزري شذ بشيء غير معروف عن غيره، لما قبلوه منه. فالإسناد –وإن اكتفي فيه تخفيفاً بذكر ابن الجزري لشهرته وإمامته وعلو سنده– إلا أنه كان معه معاصرون له كثر قرؤوا على شيوخه بما قرأ هو به. وهؤلاء المعاصرون لهم تلاميذ كثيرون تتفرع عنهم أسانيد عديدة تبلغ حد التواتر.

2) أن كتب القراءات المسندة لها أسانيد عديدة مبثوثة في الأثبات الحديثية تبلغ حد التواتر من غير طريق ابن الجزري. وهذه الأسانيد –وإن كانت بالإجازة المجردة عن السماع– إلا أنها مع انضمامها إلى الإسناد المتصل بالسماع المار بابن الجزري، تزيده قوة إلى قوته.

 
الجزء الثاني: من ابن الجزري إلى أصحاب الكتب المسندة في القراءات العشر كلها أو ست أو سبع أو ثماني قراءات منها أو أقل أو أكثر، مثل التيسير للداني والكامل للهذلي والكفاية لسبط الخياط والروضة لابن المعدل والمصباح للشهرزوري وأمثالها. وهذا القسم متواتر أيضاً على أساس أن ابن الجزري له أكثر من ألف إسناد في القراءات. وهذه الأسانيد ترجع إلى أكثر من خمسين كتابا مسندا في القراءات العشر، كل كتاب منها قرأ ابن الجزري بما تضمنه من القراءات على العشرات من شيوخه بأسانيدهم إلى مؤلفي هذه الكتب. وتفصيل ذلك موجود في كتاب النشر في القراءات العشر.

 
الجزء الثالث: من مؤلفي الكتب المسندة إلى الرواة العشرين عن القراء العشرة (كل قارئ من العشرة عنه راويان) وهذا متواتر أيضاً. لأن كتب القراءات المسندة –كما ذكرنا– أكثر من خمسين كتابا، ولكل كتاب منها عدة أسانيد إلى كل راو من الرواة العشرين، تصل هذه الأسانيد إلى حد التواتر كما يستفاد من الكتب نفسها. وقد حقق اليوم الكثير من هذه الكتب التي هي أصول النشر، ووجد لها العديد من النسخ المخطوطة النفيسة. وهذه الكتب هي الأصول التي استقى ابن الجزري منها مادته في النشر.

 
الجزء الرابع: من الرواة العشرين إلى النبي r. وهذا الجزء: منه ما توافق فيه الرواة العشرون أو مجموعة منهم يبلغون حد التواتر، فهذا لا إشكال فيه. وأكثر القرآن –بحمد الله– لا ينفرد فيه راو، بل يوافقه غيره من الرواة العشرين عن القراء العشرة. ومنه ما انفرد فيه راو أو عدد من الرواة لا يبلغ حد التواتر، وهو محل الإشكال...

 
فأحياناً ينفرد راو من هؤلاء الرواة العشرين بحرف، كانفراد حفص عن عاصم بقراءة قوله تعالى {سوف يؤتيهم أجورهم} (النساء: 152) بالياء، بينما الرواة التسعة عشر الباقون قرؤوا هذا الحرف بالنون {سوف نؤتيهم أجورهم}. أو ينفرد قارئ من العشرة بحرف، كانفراد يعقوب بضم هاء {نؤتيهم} في الآية المذكورة (النساء: 152). أو ينفرد راو أو قارئ بأصل من الأصول، كانفراد البزي عن ابن كثير بتشديد التاءات في الفعل المضارع المحذوف إحدى التاءين تخفيفاً، نحو {وقبائل لتَّعارفوا}، {فتَّفرق بكم عن سبيله}، {ولا تَّجسسوا...} وأمثال ذلك. (والكلام السابق مأخوذ من شيخنا وليد بن إدريس وفقه الله).

 

سبب الاقتصار على السبعة قراءات

وقال مكي بن أبي طالب: كان الناس على رأس المئتين بالبصرة (200هـ) على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع. واستمروا على ذلك. فلما كان على رأس الثلاثمئة (300هـ)، أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب. قال: والسبب في الاقتصار على السبعة –مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدراً، ومثلهم أكثر من عددهم– أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً. فلما تقاصرت الهمم، اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به. فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحداً. ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به، كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي جعفر وشيبة وغيرهم... انظر فتح الباري (9|31).

 

وهنا قد يتساءل المرء، أي القراءات أصح وأصوب؟ وهذا السؤال خطأ. ولعل الأصح قولاً: أيهما الأقوى تواتراً؟ فأقواهن تواتراً هي قراءة نافع، ثم تليها قراءة ابن عامر وقراءة ابن كثير وقراءة أبي جعفر. وهناك قراءات فيها خلاف، أعني أن بعض الناس ذمها وبخاصة قراءة حمزة وما تفرع عنها.

 

وأما ما زعمه البعض من أن انتشار قراءة حفص عن عاصم هذه الأيام دليل على أنها أصح، فليس في هذا القول أثارة من علم. ولو كان صادقاً، لكانت انتشرت قبل العثمانيين بعصور طويلة. لكن الحقيقة معروفة.

 

فقراءة حفص عن عاصم كانت قراءة نادرة لم تنتشر ولا حتى بالكوفة، وإنما أخذ أهلها قراءة عاصم عن أبي بكر. ثم لما ضنّ بها أبو بكر، اضطروا للأخذ بقراءة حمزة والكسائي رغم كراهيتهم لها، وما التفتوا لرواية حفص هذا. ثم لو نظرنا في العالم الإسلامي لوجدنا أنه خلال فترة من الزمن سادت قراءتي أبو عمرو و نافع على العالم الإسلامي. ولم يكن لقراءة حفص عن عاصم ذكر. ثم مع قدوم الاحتلال التركي تم فرض رواية حفص بالحديد والنار على العالم الإسلامي. فهل كانت تلك القراءة باطلة ثم أصبحت صحيحة؟ وهل علينا أن نقوم بعمل تصويت على أحسن قراءة والتي تفوز تكون الأصح؟!!! هذا قول فاسد.

 

الإمام الليث بن سعد كان من كبار فقهاء السلف، إلا أن تلاميذه لم يكتبوا تفسيره للقرآن أو الحديث ولا فقهه! أما ما كتبه هو فقد عمل حساده من القضاة والولاة على إخفائه كما أخفى كتبه بعض المتعصبين! وبعد وفاة الإمام الليث بأعوام جاء الإمام الشافعي إلى مصر يعيش فيها ويلتمس فقه الإمام الليث فلم يجد منه ما يريد! قال الشافعي: «ما فاتني أحد فأسفت عليه كالليث بن سعد». ونظر فيما بقي من آثاره فقال: «الليث أفقه من مالك، إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به». فاندثار فقه الليث وانتشار فقه مالك لا يعني أن مالك أفقه من الليث، بل العكس هو الصحيح.

 

قراءة عاصم برواية حفص ليست أفضل القراءات

 قال شيخنا وليد بن إدريس –وفقه الله– ما مختصره:

عند المقارنة بين رواية حفص عن عاصم وباقي الروايات يتبين ما يلي:

أولاً:

لا نستطيع أن نجزم بأن رواية حفص لا يفوقها أو يساويها في الفصاحة رواية أخرى، وذلك لأن فصحاء العرب الأقحاح لم يذكروا مزية لرواية حفص على غيرها من جهة الفصاحة. فالإمام أحمد بن حنبل الشيباني –وكان عربيا فصيحا– قرأ بقراءة عاصم وبقراءة أبي عمرو وبقراءة نافع. ومع ذلك قال: «عليك بقراءة أبي عمروٍ لغة قريش وفصحاء العرب». فالخلاصة أنه عند بعض الأئمة أن قراءة أبي عمرو أفصح من قراءة عاصم.

 

ثانياً:

من جهة الإمالات، فحفص لديه إمالة واحدة وهي {مجراها}. وهناك قراءات ليس فيها إمالة البتة، كقراءة ابن كثير وقراءة أبي جعفر. وقراءات فيها إمالة كلمة واحدة، كرواية قالون ليس فيها إمالة إلا في كلمة {هار} ويجوز عنده التقليل في {التوراة} ويجوز تركه. فإذا اخترت وجه عدم تقليل التوراة، لم يكن لرواية حفص مزية من جهة تساويهما في إمالة كلمة واحدة فقط في كل القرآن. وأما الإدغامات، فمن طريق الشاطبية والدرة كل القراءات –عدا رواية السوسي عن أبي عمرو– ليس فيها إلا إدغامات صغيرة في كلمات معدودة في القرآن كله. وليس لحفص مزية. بل لو أحصيت مواضع الإدغام الصغير بدقة، قد تجد بعض القراءات أقل إدغاما من حفص.

 

ثالثاً:

من جهة قرب القراءة من قراءة الرسول r. فإن النبي r كان قرشياً حجازياً. وكتب اللغة واللهجات العربية تنص على أن لغة قريش والحجازيين فيها: إبدال الهمزات، وصلة ميم الجمع. وعلى هذا فقراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو، أقرب إلى قراءة النبي r من رواية حفص عن عاصم. قصدت بإبدال الهمزات إبدال الهمزة الساكنة حرف مد من جنس حركة ما قبلها نحو "ياكل، مومن، بيس..." ولم أقصد مد البدل. وكذلك التسهيل من لغة قريش، لقولهم قريش لا تهمز، وقولهم الهمز لغة نجدية.

 

رابعاً:

من جهة السهولة. لا شك أن القراءات التي فيها إبدال الهمزات أسهل. بدليل أن اللهجات العامية العربية كلها تجد فيها إبدال الهمزات. فتجدهم يقولون "ياكل، ياخذ، الراس، البير..." ولا تجدهم يقولون في العامية "يأكل، يأخذ، الرأس، البئر...". إذن قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو، أسهل من حفص وأقرب للغة الناس اليوم. كما أنك تجدهم يقولون "العشا، صفرا، السما..." ولا تجدهم يقولون "العشاء، صفراء، السماء...". إذن قراءة حمزة ورواية هشام، أسهل من حفص وأقرب للغة الناس اليوم.

 

خامساً:

رواية الدوري عن أبي عمرو ظلت قراءة معظم العالم الإسلامي لمدة تسعة أو عشرة قرون، ورواية حفص ظلت الغالبة خمسة قرون، والله تعالى أعلم بما سيكون. قد تتغلب عليها رواية أخرى في قرون قادمة، فذلك من الغيب الذي يعلمه الله. ولا يستطيع أحد أن يدعي علم الغيب فيدعي أنها ستظل الرواية السائدة إلى يوم القيامة. ثم إن الانتشار والانحسار لا يعني أنها أفصح ولا أنها أفضل.

 

سادساً:

لم تنفرد قراءة عاصم بثناء العلماء عليها، بل لهم ثناء كثير على غيرها، وأكثر الأئمة يفضلون غيرها عليها. وذكر الشيخ عدد من النقولات. لكني أضيف إلى أنه لم يفضل أحد من السلف قراءة حفص على قراءة أبي بكر، إلا مقولة لابن معين مع تكذيبه فيها لحفص. بل نجد عامة المتقدمين يأخذون قراءة عاصم عن أبي بكر وحده دون حفص، مع أن أبا بكر كان عسراً. حتى أن خلف اضطر أن يأخذ قراءته عن الأعشى وعن يحيى بن آدم: عن أبي بكر، رغم لقاءه بأبي بكر. ولم يلق بالاً لأن يأخذ قراءة عاصم عن حفص. وما علمنا أحداً من أئمة القراء في ذلك الزمن فضل حفصاً على أبي بكر.

 

سابعاً:

وأما أحكام تجويد حفص فيساويها أحكام تجويد شعبة. وهنا قد يقول قائل: إن رواية شعبة أسهل من رواية حفص لأن: قواعدهما التجويدية واحدة، لكن رواية شعبة أكثر اطرادا للقواعد، والمواضع التي فيها خروج عن القواعد المطردة في رواية شعبة أقل منها في رواية حفص.