حكم تحديد النسل

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد

فهذه المسألة من المسائل الخلافية الشائكة التي اختلف بها السلف و يختلف بها فقهاء العصر. و قد رأينا تبسيط هذه المسألة و توضيح المسألة من أبعادها و تبيين أدلة كل طرف و مناقشتها. و من ثم الوصول إلى حكم وسط راجح في هذه المسألة.

ترغيب الإسلام على الزواج و الإنجاب

لقد حض الإسلام على الزواج وذم الرهبانية و التبتل. وثبت في الصحيح عن ابن مسعود t قال: قال رسول الله r: «يا معشر الشباب. من استطاع منكم الْبَاءَةَ فليتزوّج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليهِ بالصوم، فإنه له وِجَاء» رواه الجماعة. وعن سعد بن أبي وقاص قال: «رد رسول الله r على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا». وعن أنس: أن نفراً من أصحاب النبي r قال بعضهم: "لا أتزوج". وقال بعضهم: "أصلي ولا أنام". وقال بعضهم: "أصوم ولا أفطر". فبلغ ذلك النبي r فقال: «ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني». متفق عليهما.

فهذه كلها أحاديث صحيحة ترغب بالزواج، ولا تدل بأي شكل على استحباب الإنجاب. والفرق شاسعٌ بينهما، لأن الهدف من الزواج هو إحصان النفس. ولو كان الرجل شيخاً مثلاً لا رغبة له في الزواج، فلا يكون الزواج مستحباً له على قول بعض العلماء. قال الغزالي في الإحياء: «من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح».

وقد استشهد من قال باستحباب الإنجاب بأحاديث باطلة ضعيفة لا يكاد يصح منها شيء. منها: حديثٌ عن ابن عمر عن الديلمي في مُسنَدِ الفِردَوس قال: قال رسول الله r: «حجوا تستغنوا. وسافروا تصحوا. وتناكحوا تكثروا. فإني أباهي بكم الأمم»، وفي إسناده محمد بن الحرث عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني وهما ضعيفان. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة: «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. ولا تكونوا كرهبانية النصارى»، وفي إسناده محمد بن ثابت وهو ضعيف، وقد أشار البيهقي نفسه لضعف الحديث. وأخرج الدارقطني في المؤتلف وابن قانع في الصحابة عن حرملة بن النعمان: «امرأةٌ ولودٌ أحَبّ إلى الله من امرأة حسناء لا تلد. إني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة»، وهو ضعيف. وأخرج ابن ماجة وعن عائشة أن النبي r قال: «النكاح من سنتي. فمن لم يعمل بسنتي فليس مني. وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. ومن كان ذا طول فلينكح. ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء»، وفي إسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف. وأخرج الحاكم عن عياض بن غنم: «لا تزوجوا عاقراً ولا عجوزاً، فإني مكاثر بكم الأمم»، وقد ضعفه ابن حجر. وأخرج ابن مِرْدَوَيْه في تفسيره من حديث ابن عمر: «تَنَاكَحُوا تَكْثُروا فَإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ يومَ القيامة»، وضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (2|22). وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص: «إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة». وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعاً: «لا صرورة في الإسلام»، وفي إسناده عمر بن عطاء وهو ضعيف كما أفاد المنذري. وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «انكحوا العالمين الأولاد، فإني أباهي بكم يوم القيامة»، وفيه جرير بن عبد الله المعافري وهو ضعيف. وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن حفص بن عمر (هو ابن عبد الله بن أبي طلحة، جيد الحديث) عن أنس أن النبي r كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة»، وفي إسناده خلف بن خليفة وهو ثقة لكن قد خرف واختلط، وقد أشار لذلك أحمد (3|245) في ذكره لهذا الحديث.

على أن هذه الأحاديث كلها –لو صحت– تؤخذ على استحباب تزوج المرأة التي تنجب الأولاد. و ليس من هذه الأحاديث حديثٌ واحدٌ يُحرّم تحديد النسل. فالتحريم لا بد له من دليلٌ واضحٌ، و هو مُنتفٍ في هذه الحالة. وأحسن ما في الباب ما رواه أبو داود (2|220) وابن حبان (9|364) والحاكم (2|176) عن معقل بن يسار قال: جاء رجلٌ إلى النبي r فقال: «إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد. أفأتزوجها؟» قال: «لا». ثم أتاه الثانية، فنهاه. ثم أتاه الثالثة، فقال: «تَزوَّجوا الودُودَ الولُودَ فإنِّي مُكاثِر بكم الأمَم». والمُكَاثرة: هي المُفاخَرة بالكثْرة. والحديث في إسناده مستلم بن سعيد قال عنه ابن حجر: «صدوقٌ عابدٌ رُبما وَهِم». وهذا لو صحّ لكان معناه تحريم تزوج المرأة التي لا تنجب، وهذا أمرٌ لا أعلم أحداً منهم يقول بذلك. وفي الحديث بعض النكارة، إذ كيف عرف ذلك الرجل أنها لا تنجب وهو لم يتزوجها؟ ألِمجرد شك في قدرتها على الإنجاب يحرم الزواج منها؟! وناهيك بالحديث ضعفاً أن لا يعمل به أحد. إلا إن حملوه على مجرد كراهة الزواج ممن يُظَن أنها لا تنجب، فيكون المعنى كراهية قطع النسل كلية (وليس تحريم تحديده).

وقد استدل البعض بكراهية تكثير النسل بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء:3). قال بعض العلماء معناها: تزوجوا واحدة ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم. قاله زيد بن أسلم وجابر بن زيد وسفيان بن عيينة والشافعي. وهذا التفسير جائزٌ عند علماء اللغة.

 

بعض الصحابة والعلماء الذين كانوا يحدّدون النسل

لو تأملنا سيرة السلف الصالح، لوجدنا أن فهمهم لهذه القضية يختلف كثيراً عن المنتشر بين علمائنا الذين يزعمون ضرورة الإنجاب كل عام! فلو تأملنا حال كبار الفقهاء وعلماء الحديث، بل حتى بعض كبار الصحابة، لوجدنا أنهم كانوا يعزلون. ومنهم من صرح بذلك بشكل صريح. ولذلك لا تجد لهم من الأولاد إلا القليل جداً. فقد أجاز العزل زيد وابن عباس وابن مسعود. ولا نعرف لعبد الله بن مسعود t من الأبناء إلا أبو عبيدة وعبد الرحمان وسارة. أما حافظ الصحابة وراوية الحديث أبي هريرة فليس له إلا محرر ومحمد ومروان، وقيل له بنت والله أعلم. ثم نظرنا إلى كبار الفقهاء وأئمة المحدِّثين، فوجدنا الولد فيهم قليل جداً:

 

الفرق بين منع الحمل وتنظيم النسل

(أ) منع الحمل: هو استعمال الوسائل التي تسبب العقم الدائم عند الرجل أو المرأة كاستئصال الرحم أو الاستخصاء. و هذا النوع الراجح في أصح الأقوال عدم جوازه. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (9|310): «ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله. وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع، وهو مُشكلٌ على قولهم بإباحة العزل مطلقاً». أقول الفرق بيّن: وهو في حال العزل مطلقاً، فإن الزوجين بإمكانهما إيقاف العزل والإنجاب في أي وقت يرغبون فيه. أما في حال العقم الدائم، فهي مجازفة لا يمكن إصلاحها.

(ب) تنظيم و تحديد النسل: ويكون في استعمال وسائل معروفة لا تؤدّي إلى إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل، بل يراد بذلك الوقوف عن الإنجاب عند الوصول إلى عدد معين من الذرية لأسبابٍ شرعية القصد، منها مراعاة حال الأسرة وشؤونها من صحة أو قدرة على التربية، أو لإتمام مُدة الرضاعة وهي سنتان كما بينها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. و يكون هذا التوقّف عن الإنجاب باستعمال وسائل يُظن أنها تمنع من الحمل يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل كالعزل، وهو قذف ماء الرجل خارج الرحم، وكتناول العقاقير ووضع اللبوس -وهو اللولب- في الفرج وترك الجماع في وقت إخصاب بويضة المرأة ووضع العازل المطاطي ونحو ذلك.

 

الأسباب التي تدعو لتحديد النسل

أولاً: من المعلوم عند الجميع أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكن الناس وللزراعة والإنتاج ممّا يحتاجه الناس محدود. و نجد كثيراً من بلاد المسلمين -بنغلادش مثلاً- قد استُنفِذت بها كل الموارد الطبيعية و الأراضي القابلة للزراعة، مع زيادة كبيرة للسكان أدت لفقر مدقع و مجاعة دائمة و تخلف شامل في كل النواحي. و زيادة السكان لا تزيد البلاد إلا فقراً.

و هذه الهند و الصين بدأتا كلاهما تجربة النهوض في نفس الوقت. و على الرغم من كون الهند أكثر ديمقراطية و انفتاحاً فإن عدم تحديد النمو السكاني جعل الهند تبقى متخلفة من المنظور العام، بعكس الصين التي حققت بسبب تمكنها من السيطرة على النمو السكاني أعلى نمو اقتصادي في العالم. مع العلم بأن الصين تملك مجرد نصف الفدادين المزروعة لكل فرد مقارنة بالهند. ومع ذلك فقد توصل الشعب الصيني في عشرين سنة فقط إلى القضاء على كل أثر ظاهر للجوع، بينما لا يزال الملايين يجوعون في الهند.

وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة: «مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ التَّكَاثُرَ. وَمَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْخَطَأَ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْعَمْدَ». وأخرجه ابن حبان في صحيحه (8|16)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10|236): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح»، وقال الحاكم في مستدركه (2|582): «هذا حديث صحيح على شرط مسلم». وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أيضاً: «ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغني غنى النفس. والله ما أخشى عليكم الفقر ولكن أخشى عليكم التكاثر. ولكن أخشى عليكم العمد».

ثانياً: أن الفطرة وضعت حداً مناسباً لتنظيم النسل والمنع من تضخيمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان. و كمثال مصغر على ذلك قبيلة تعيش حول بئر ماء فلما تضاعف عدد أفراد القبيلة جف البئر و لم يعد يكف فمات الكثير من العطش مما حدد نمو القبيلة.

ثالثاً: أن طبقات الناس متفاوتة غنىً وفقراً، فلهذا وجب الحد من التناسل صيانةً للأسرة مما يتهدّدها من خطر كثرة الأولاد وإنقاذاً للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات.

رابعاً: أنّ تحديد النسل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها. و هذا ثابت و معروف في العلم و الطب. فكثرة الإنجاب ترهق المرأة و تذهب جمالها و تقصر معدل عمرها.

خامساً: أن المطلوب هو النوعية و ليس الكثرة. فأن نحصل على ذرية قليلة يعتني بها آبائها خير العناية لتصبح بعد ذلك النخبة القائدة خير من ذرية كثيرة ضعيفة لا تملك قوت نفسها.

أخرج أحمد وأبو داود بإسناد حسن أن رسول اللّه r قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ (ما يحمله السيل من وسخ) كغثاء السيل. ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن». فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟ قال: «حبُّ الدنيا وكراهية الموت». فلم تغن عنا كثرتنا شيئاً في هذا العصر، و إنما أصبحنا كالغثاء الذي يحمله السيل، كثير وافر لكنه لا يفعل شيئاً.

هذه بالطبع بعض الأسباب التي تدعو لتحديد النسل. و إلا فإن الأحكام الشرعية تؤخذ من القرآن و السنة، و القول بالتحريم لا بد له من دليل شرعي صريح حتى يؤخذ به.

 

مناقشة القائلين بمنع تحديد النسل

قام عدد من العصرانيين بسرد حجج عقلية متهافتة، لا تستند إلى الشرع ولا إلى العلم. بل الأمر كما قال الشيخ الدكتور راتب النابلسي: «لا يوجد نص في القرآن أو السنة الصحيحة، يُحرّم أو يتعارض مع تنظيم النسل». وطالما أن أدلته معتمدة على الرأي العقلي وحده، وليس فيها أدلة شرعية صريحة، فنحن سنجيبهم بنفس منطقهم.

فلماذا تمنعون من الزوجين تحديد نسلهما بعدد معين من الأولاد، مع أن هذه مسألة شخصية لهما؟ هل فقط للمفاخرة بالكثرة في الآخرة؟! لقد كان ضعف المسلمين في السابق وقلة عددهم وشوكتهم يستدعي الإقدام على تكثير النسل والحث عليه، من أجل أن تكون للإسلام كلمة عليا وقوة ضاربة. أما اليوم وبعد أن كثر عدد المسلمين بصورة كبيرة جداً، فلا معنى لبقاء الحكم على حاله، بل ينتفي هذا الحكم بانتفاء موضوعه.

وقد كانت كثرة الأولاد دليلاً على القدرة والشوكة، بحيث كانت الأقوام تتفاخر بكثرة الأولاد والأموال. ويشهد لما ذكرنا من أن ذلك كان مختصاً بفترة زمنية، كان ينظر فيها إلى أن كثرة دليلاً على القوة والمنعة ما حكاه الله –سبحانه وتعالى– عن المترفين في الأمم السابقة. قال سبحانه: {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين}. فإذا ثبت اليوم أن كثرة النفوس توجب الضعف والفقر والجهل والمرض والبطالة، فلا تكون سبباً للافتخار، بل سوف تكون سبباً للفشل والتواني. فلا ريب في عدم استحباب الإنجاب، فضلاً عن الإكثار منه والدعوة إليه.

وإذا كانت  الكثرة –اليوم– "عزة" و "قوة" و "منعة" و "مورد" و "بناء" كما يزعم العصرانيون اليوم، فما بالنا نرى هذه الحالة المتردية لبلاد العرب والمسلمين، وهم على كثرتهم التي تقارب اليوم حوالي ربع سكان العالم (1.5 بليون من أصل 6 بليون نسمة)، انظروا إلى الذل الذي يتمرغون فيه ليل ونهار، ويذيقهم إياه عدوهم المشهور بقلة عدده، لدرجة استجلابه وتجنيسه لأفراد من أمم الأرض الأخرى لتعمر أرضه! وانظروا إلى قلة عدد اليهود في العالم رغم مدى تأثيرهم الكبير. بل هم بحق حكام العالم اليوم، حيث لا تكاد تجد دولة (في أوربا أو الأميركيتين أو إفريقيا أو أجزاء كبيرة في آسيا) إلا ويسيطر عليها النفوذ اليهودي. فهم اليوم 12 مليون كما يؤكد رئيس وزراء إسرائيل نتن ياهو. وبالتأكيد أن أقل من نصف هؤلاء في مناصب تؤهلهم لخدمة مساعي الصهيونية العالمية أو أنهم متدينون يهود. بمعنى أنه ربما نصف هذا العدد، يقوم بمئات أضعاف العمل الذي يقوم به ربع سكان الأرض المسلمون! فمن أين زاوية يرى العصرانيون أن الكثرة قوة ومنعة؟! هذا مخالف للعقل والواقع. فإن العبرة بالتنظيم والعمل الجماعي وحسن الإدارة (والمسلمون اليوم هم أفشل الناس بهذا). فانظروا للقلة اليهودية العاملة في أميركا وأوربا من أجل مصالح دولتها، وانظروا لغثاء السيل العربي والمسلم. هل أفادتنا الكثرة –أيها العقلاء– أم أنها أضحت عالة؟

إن الحث على الإكثار من النسل والدعوة إليه، لابد من تقييدها بصورة تُمكّن الأبوين من تربية الأولاد والذرية المنجبة تربيةً تؤدي بها إلى الصلاح والهدى حسب مقاييس الإسلام. فالمهم هي النوعية وليست الكمية. وليس كما قال أحد الحشوية، بأن كثرة الذرية يعطي العز والفخر حتى لو لم تكن صالحة! وهذا باطل. بل إن المباهاة والمفاخرة لن تكون إلا بالكثرة الصالحة، كما هو منطلق القانون العقلاني. وعلى هذا لو غلب الظن على عدم قدرة الأبوين على تربية ما زاد على قدر معين من الأولاد تربية صالحة، بل سيؤدي الإنجاب إلى كثرة غير صالحة، فلا ريب في وجوب منع الإنجاب. وهذا يَلزم –من باب أولى– العلماء الذين كرهوا أو منعوا المسلم من الإنجاب في بلاد الحرب، حتى لا يُسبى ولده.

هل من اعتبار لأولئك الناس الذين لا يحبون كثرة الأطفال، ويفضلون الهدوء الذي يسلبه كثرة الضجيج مع كثرة الأفراد في البيت الواحد، وكثرة همومهم؟ ما ذنب هؤلاء لو أن مزاجيتهم لا تقبل أكثر من ولد وبنت مثلاً، أو أربعة أبناء على الأكثر، أعني وضع تحديد لعدد الذرية؟ أليس إلزام زوجين يحبان الهدوء بإنجاب عشرة أطفال، يخالف الفطرة والحرية الشخصية التي يضمنها الإسلام؟

إن فكرة منع تحديد النسل والتشجيع منه هي فكرة رأسمالية. لذلك تجد عدداً من الدول الرأسمالية تشجع على التكاثر مثل ألمانيا واليابان. ذلك أن زيادة عدد السكان، يعني للرأسماليين زيادة الطلب على الخدمات والسلع. كما أن مبدأ "العَرْض والطلَب" يعمل لصالحهم، حيث أن كثرة العمال يعني انخفاض إجرتهم. وهذا سيحقق أرباحاً أكبر للرأسمالي.

العلماء يذكرونا بفضل الزواج وجلبه للرزق، وبأن تقوى الله كفيلة بأن ينعم الله بغير حساب على عبده المحتسب. وهذا كلام رائع جميل، على العين والرأس. ولنا أن نسأل: هل المقصود أن التقوى وحدها كافية بفتح أبواب الرزق على العبد التقي، أم يجب أن يأخذ بالأسباب كذلك؟ وإذا كانت التقوى هي بحد ذاتها عامل كفيل بفتح أبواب الرزق على العبد المحتسب، فلماذا كان بعض كبار الصحابة، يجوع حتى أنه يخرج في الحر القائظ وقد ربط حجراً إلى بطنه، يبحث عن الطعام؟ هل التقوى تعمل بشكل آلي تلقائي، فإن أنت اتقيت أصبحت ثرياً في الحال؟ وهل هذه قاعدة متحققة دائماً؟ ألا يستلزم التوكل الأخذ بالأسباب، كما تكررون دائماً؟

لنفكر بمثال عملي من واقعنا في البلاد العربية. رجل يدرس في مدرسة، يتلقى راتبه المتواضع من الدولة، وبالكاد يكفيه وزوجته (مع عمل إضافي مسائي). من المنطقي حض هذا الرجل على إنجاب 12 ولداً، ودخله محدود، وكذلك طاقته؟ فإن قيل عليه أن يبحث عن فرصة عمل أخرى، أقول: وهل في بلادنا فرص عمل أصلاً؟ وهل تريدونه يضرب الرمل فيخرج الألماس؟ أليس تجاهلكم للأخذ بالأسباب هو من التواكل الذي حاربه الإسلام؟

ثم إن كثرة الأولاد في الأسرة الواحدة –في هذا العصر– تجلب الكثير من المشاكل والهموم. فمثلاً، من كان عنده 12 ولداً وبنتاً، وهو الوحيد –بحكم كونه رجلاً– الذي يسعى للرزق ليُعيلهم. أليس كل واحد من أبنائه الـ12 وزوجته (هذا إن فرضنا أن له زوجة واحدة فقط) ونفسه لهم حاجاتهم؟ كم قطعة لباس في العام لكل فرد منهم؟ كم من مصاريف التعليم والخدمات والصحة واللباس والطعام؟ أي سيارة ستسعه هو وأبنائه الإثني عشر إن أراد اصطحابهم إلى مكان ما لقضاء نزهة؟ كيف سيتمكن من إيصال كل واحد لمدرسته –على اختلافها باختلاف أعمارهم–؟ بل أي بيت سيسع تلك الأسرة الضخمة، دون أن يشعر أفرادها بأنهم في قفص دجاج؟ فهل يجب على  الوالدين أن يحرما أنفسهما من نعم الله التي كانت ستتوفر لهما لو كانا قد أنجبا عدداً أقل من الأبناء؟ وأين الفائدة من هذا الإنجاب؟! لماذا لا يفكر من يفتي الناس بنظرة واقعية؟

ويكفينا في رد تلك المقالة المخترعة بمنع تحديد النسل، أنها بدعة لم يقل بها أحد من السلف، ولا أحد من كبار الفقهاء، ممن أجاز العزل. حتى جاء هؤلاء المشايخ العصرانيون فزعموا عليها الإجماع. وقد قال الإمام أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب». والمسألة فيها خلاف معروف حتى بين العلماء المعاصرين.

 

موقف الإسلام من تحديد النسل

لقد اختلف العلماء في حكم تنظيم النسل لاختلافهم في فهم الأحاديث المتعلقة بحكم العزل، فقد صحت أحاديث في إباحته منها، ولكن منهم من قال بنسخها ومنهم من استدل بها. وأما الذين ذهبوا بالقول إلى نسخ تلك الأحاديث فقد حرّموا تنظيم النسل مطلقاً وقالوا أن الله تعالى أرحم بخلقه منا فيهب لمن يشاء ويمنع من يشاء. و من أشهر القائلين بالتحريم ابن حزم الأندلسي الظاهري.

و هذا الإدعاء لا دليل عليه. إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال. فالقول بنسخ الأحاديث لا يجوز إلا بشرط أن يكون هناك تعارض صريح بين الحديثين لا مجال لجمعهما معاً و هذا غير متحقق في مثالنا هذا. و يشترط أيضاً معرفة السابق من اللاحق في الأحاديث حتى نعرف من الناسخ و المنسوخ و هذا أيضاً غير متحقق. بل الثابت عن الصحابة الكرام أن حديث جواز تحديد النسل لم ينسخه شيء. وقد ثبت في الصحيحين (واللفظ لمسلم) عن جابر t قال: «كُنّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ r وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَبَلَغَه ذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَنَا».

و العزل هو أن يطأ الرجل امرأته فيعزل عنها قبل أن يقع الماء فيها مخافة الحبل. و كان اليهود يكرهون ذلك فيقولون هي الموءودة الصغرى، فنزل قول الله تعالى: {نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}. و سئل ابن عباس t عنه فقال: «إن كان رسول الله r قال فيه شيئاً فهو كما قال. و إلا فأنا أقول كما قال الله تعالى: {نساؤكم حرثٌ لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم}. فمن شاء عزل، و من شاء لم يعزل». و قال عبد الله بن مسعود t و عبد الله ابن عمر t مثل ذلك. و روى أبو سعيد الخدري t عن رسول الله r أنه سُئِل عن العزل فذكر نحو ذلك. و قال عطاء بن جابر t: «كنا نعزل على عهد رسول الله r و القرآن ينزل و ما منع من العزل». قال ابن حزم في المحلى (10|71): «وقد جاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وابن مسعود».

 ومثله ما أخرج الترمذي وصححه عن جابر قال: كانت لنا جَوارِ، وكنا نعزل، فقالت اليهود إن تلك الموؤدة الصغرى. فَسُئل النبي r عن ذلك فقال «كذبت اليهود لو أراد اللّه خلقه لم يستطع رده»، وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة. فقوله "كذبت اليهود" فيه دليل على جواز العزل. ولكنه يعارض ذلك ما في حديث جذامة الذي أخرجه مسلم من تصريحه r بأنه الوأد الخفي. فمن العلماء من جمع بين هذا الحديث وما قبله فحمل هذا على التنزيه وهذه طريقة البيهقي، ومنهم من ضعف حديث جزامة هذا لمعارضته لما هو أكثر منه طرقاً، قال الحافظ بن حجر: «وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم. والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن». ومنهم من ادعى أنه منسوخ، و أُجيبَ بعدم معرفة التاريخ فلا يمكن ادعاء النسخ. وقال الطحاوي: «يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولاً من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه اللّه بالحكم، فكذب اليهود فيم كانوا يقولونه». وتعقبه ابن رشد وابن العربي بأن النبي r لا يحرم شيئا تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه. ومنهم من رجح جذامة بثبوته في الصحيح وضعف مقابله بالاختلاف في إسناده والاضطراب. فأنكر ذلك الحافظ بن حجر و قال: «ورُدَّ بأنه إنما يقدح في حديث لا فيما يقوي بعضه بعضاً، فإنه يعمل به. وهو هنا كذلك، والجمع ممكن». ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها موافقة لأصل الإباحة، وحديثها يدل على المنع. قال: «فمن ادعى انه أبيح بعد أن منع، فعليه البيان». و الجواب عليه أن حديث جذامة ليس بصريح في المنع، إذ لا يلزم من تسميته وأداً خفياً –على طريق التشبيه– أن يكون حراماً.

قال الشوكاني في نيل الأوطار (6|349): «وجمع ابن القيم فقال: الذي كَذَّبَ فيه r اليهودَ هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً. وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه. وإذا لم يرد خلقه، لم يكن وأداً حقيقة. وإنما سماه وأداً خفياً في حديث جذامة، لأن الرجل إنما يعزل هرباً من الحمل. فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد. لكن الفرق بينهما أن: الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل. والعزل يتعلق بالقصد فقط. فلذلك وصفه بكونه خفياً. وهذا الجمع قوي. وقد ضَعَّفَ أيضاً حديث جذامة –أعني الزيادة التي في آخره– بأنه تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود. ورواه مالك ويحيى بن أيوب عن أبي الأسود، فلم يذكراها. وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب. وقد حذف هذه الزيادة أهل السنن الأربع».

بعد استقراءٍ للموضوع من جميع جوانبه يتبين أنّه –والله أعلم– لا مانع من تحديد النسل. فالصواب في هذه المسألة الجواز لعدم وجود أي دليل صريح على التحريم. و كون الصحابة –رضوان الله عليهم– قد فعلوا هذا بحضرة رسول الله r و إقراره لهم على ذلك، لأقوى دليل على جواز تحديد النسل. فقد أخرج البخاري أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ t أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ r قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ فَقَالَ: «أَوَ إِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلا هِيَ خَارِجَةٌ». و أخرج مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ النّبِيّ r فَقَالَ: «وَمَا ذَاكُمْ؟» قَالُوا: الرّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرْضِعُ فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، وَالرّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ. قَالَ: «فَلاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فَإِنّمَا هُوَ الْقَدَرُ».

والعمدة في ذلك قوة الأدلة التي تبيح العزل ولفعل الصحابة الكرام لذلك وبه أفتى الصحابة بعد وفاة رسول الله r. إذ جاء رجلٌ إلى النبي r فقال: يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجل –أي يريد لذة الجماع ولا يريد منها الولد– وإن اليهود تحدّث أن العزل الموءودة الصغرى، فقال رسول الله r: «كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعتَ أن تصرفه»، وفي رواية قال r: «إن ذلك لا يمنع شيئاً أراده الله». فجاء الرجل نفسه مرة ثانية فقال: يا رسول الله، إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت. فقال رسول الله r: «أنا عبد الله ورسوله» [رواه مسلم]. و في حديث آخر عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللّهِ r فَقَالَ: إِنّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ. فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ. فَإِنّهُ سَيأْتِيَهَا مَا قُدّرَ لَهَا».

أما اشتراط إذن الزوجة فعليه خلاف بين الفقهاء. قال الإمام محيي الدين النووي: «لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة –سواء رضيتا أم لا– لأن عليه ضرراً في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولدته رقيقاً تبعاً لأُمِّه. وأما زوجته الحرة، فإن أذنت فيه لم يحرم، وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم». أقول والصواب أنه يُشترط إذن الزوجة في حال العزل (لأنه يكون على حساب متعتها) لأن لها حقاً في النكاح. وأما غير ذلك ففيه خلاف رجح النووي عدم اعتبار إذنها.

و يعترض بعض المحرمين المعاصرين على تحديد النسل بأن إعطاء المرأة هرمون نسائي يؤدي لوقف الدورة، ممكن أن يؤدي لبعض الأعراض الجانبية عندها. و هذا الحجة مردودة لأن هذه هي طريقة واحدة من طرق الحمل، و وسائل منع الحمل كثيرة و متعددة. فمن الوسائل الحديثة ما يعطى للرجال و قد أثبت خلوه من أي أضرار جانبية. و من الوسائل الطبيعية المعروفة أن لا يعاشر الرجل عن زوجته عند فترة الإباضة التي تسبق الحيض، أي خلال أربعة أيام قبل الحيض. و أبسط منه أن يعزل عنها عند خروج الماء كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم. و من الثابت طبياً أن هذه الوسائل الطبيعية ليس لها أية أضرار. بل لو كان لها أضرار لما أقرها الرسول r.

حكم الإجهاض

أما الإجهاض فما كان قبل 120 يوماً من الحمل (أي أربعة أشهر) فهو جائز بدليل حديث علي. فقد ذكر أنه جلس إلى عمر، علي، والزبير وسعد في نفر من أصحاب رسول الله r فتذاكروا العزل فقالوا: «لا بأس به». فقال رجلٌ: «إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى». فقال علي t: «لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع: حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون خلقاً آخر». فقال عمر t: «صدقت أطال الله بقاءك». [رواه أبو يعلى وغيره].

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ r وَ هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَ يُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَ رِزْقَهُ وَ أَجَلَهُ وَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَ يَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ النَّارِ إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (أخرجه مسلم). أي أن المدة اللازمة للجنين ليصبح نفْساً هي أربعين يوماً ليتجمع خلقه ثم أربعين يوماً ليصبح علقة ثم أربعين يوماً ليصبح مضغة. فيكون ذلك كله 40+40+40=120 مئة و عشرون يوماً، أي أربعة أشهر.

إذاً إن نفخ الروح كما هو واضح من الأحاديث النبوية الصحيحة يكون بعد مئة وعشرين يوماً. وهذا إجماع من العلماء نص عليه جماعة. قال القاضي عياض (476 - 544 هـ) كما في الفتح (11|485): ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس وهذا موجود بالمشاهدة وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام وقال القرطبي (600 - 671هـ) في تفسيره (8|12)
لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس

وقد اختلف الفقهاء في هذا فمنهم من أجاز الإجهاض قبل نفخ الروح، ومنهم من رفضه، أما بعد نفخ الروح و قد اتفق علماء المسلمين على حرمة الإجهاض. و لكن ظاهر الحديث الأول يثبت أن الحرمة تكون بقتل الروح و ليس قبل نفخها، و لذلك لا يسمى الإجهاض وئداً إلا بعد نفخ الروح. و أما ما كان أربعة أشهر من بدء الحمل فلا يجوز لأن فيه قتل لنفس بغير حق. و تزداد حرمة ذلك إذا كان سبب منع الحمل الخوف من الفقر أو من مظنّته، فقد قال تعالى{..ولا تقتلوا أولادكم من إملاق..} أي من الفقر، وقال سبحانه أيضاً {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق..} [الإسراء: 31] أي خشية الفقر لأن الله سبحانه وتعالى {..هو الرزاق ذو القوة المتين}. إلا في حالة الضرورة القصوى مثل الخوف على حياة الأم وما يشبه ذلك من الضرورات. و الحكمة من ذلك أن في الإجهاض في تلك المرحلة المتأخرة خطر على حياة المرأة. و رغم تقدم الطب و تقليل هذا الخطر إلا أنه ما يزال موجوداً. فلعل هذا هو سبب التحريم و الله أعلم.

حكم فرض تحديد النسل من الدولة

يقول مفتي الأردن السابق الشيخ عبد الله القلقيلي في رسالة إلى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: ونحن نفتي بجواز تحديد النسل مطمئنين. وقد ذكرنا من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ما يقطع ريب المستريبين، وإذا قررت الحكومة هذا فإن العمل به يكون لازماً؛ لأن من المتفق عليه أن أولى الأمر إذ أخذ بقول ضعيف يكون الأخذ به حتماً.

هذا ما يسّر الله لي كتابته، فإن وفقت فالفضل والمنة لله وحده وإن أخطأت فمني ومن الشيطان والله تعالى ورسوله r منه براء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.