منهج البخاري

 

صحيح البخاري ورواته

اسم صحيح البخاري كما رجحه ابن حجر: "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".
ويقال (والله أعلم) أن البخاري (194-256هـ) قد عرض صحيحه على أهم علماء عصره مثل أحمد بن حنبل (241هـ\855م) وابن معين (233هـ\847م) وابن المديني (234هـ\848م)، أي أن البخاري انتهى من تأليف صحيحه عام (232هـ\846م)، ثم أمضى 24 سنة من حياته يرحل في بلاد المسلمين ويُحدّث بصحيحه. وفي كل مدينة يزورها، يجتمع عليه آلاف من الناس يستمعون لصحيحه. وبهذا تعلم أن تشكيكات المستشرقين في احتمال تَغيّر أحاديث البخاري بعد وفاته، هي محض أوهام، لأن صحيحه قد تواتر عنه في حياته، فلو غلط عنه واحد من الرواة فسينكشف ذلك لكل الناس. خلال تلك الفترة الطويلة (24 سنة)، قام البخاري بعدة تعديلات طفيفة في صحيحه، خاصة في أسماء الأبواب. فكل رواية سُمّيت باسم راويها. وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "النكت على ابن الصلاح" أن عدد الأحاديث في كل الروايات هو نفسه لم يختلف. وقد سمع منه الصحيح قرابة تسعون ألفاً، ورواه عنه عدد من الرواة الثقات، أشهرهم محمد بن يوسف الفربري (231 - 320هـ\846 - 932م)، وقد سمع الصحيح مرتين: سنة 248هـ وسنة 252هـ. ومنهم إبراهيم بن معقل النسفي (295هـ\907م) و حمّاد بن شاكر النسوي (290 أو 311هـ\923م)، وآخرهم حسين المَحامِلي (330هـ\942م) و منصور بن محمد البزدوي (329هـ\941م).

 

 

شرط البخاري في صحيحه

لم يشترط البخاري ذكر كل حديث صحيح عنده في صحيحه، بل صرح بخلاف ذلك، وقد سأله تلميذه الترمذي عن عدة أحاديث لم يروها في صحيحه فصححها. لكنه جمع في حديثه أصح الأحاديث وفق شروط لم ينص عليها، لكن العلماء حالوا باجتهادهم معرفتها. وذكر ابن حجر في كتابه النكت: أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدين يخرج البخاري أحاديثهم غالباً في الاستشهاد والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم، فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول والاحتجاج ولا يعرج البخاري في الغالب على من أخرج لهم مسلم في المتابعات. فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم، وأكثر من يخرج لهم مسلم في المتابعات لا يعرج عليهم البخاري.

 

 

هل يصح قولنا: احتج به البخاري؟ وهل هذا توثيق؟

أي راوٍ أخرج له الشيخان في صحيحيهما فهو يحتمل أن يكون ذلك في الأصول ويحتمل أن يكون ذلك في الشواهد. ولا بد من الاستقراء لحسم الأمر. فإن قال واحد "إنما أخرجا له في الشواهد"، فلا يصح اعتراض من قال "بل احتجا له في الأصول" حتى يبيّن ذلك الحديث. فإذا بيّن، فالقول قوله، حتى يُثبِتَ الطرفُ الآخر أن لهذا الحديث شواهد ومتابعات، فيَخرجُ الراوي من طَور المحتجّ بهم. وفي كلّ حالٍ فمن المعلومِ أن الشيخان قد يحتجّان بالمليّن حديثه بما علِما أنه من صحيح حديثه. فما عُلِم أن الشيخان قد احتجا به، فهذا يقوّي شأنه ويثبت عدالته، لكنه دون التوثيق الكامل.

قال ابن القيم في زاد المعاد (1|364): «وعلّله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: "كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه". انتهى كلامه. ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه. كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه. فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضَعَّفَ جميع حديث سيئ الحفظ. فالأُولى طريقة الحاكم وأمثاله. والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله. وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن. والله المستعان». ونقل الترمذي في العلل الكبير (2|978 حمزة ديب، ص 394 السامرائي) عن شيخه البخاري قوله: «وكل رجل لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه، لا أروي عنه ولا أكتب حديثه».

 

من علامات الاستشهاد عند البخاري عبارة "قال لنا".

لا يخفى على أحد دقة البخاري في اختياره لمفرداته. وقد احتاط لصحيحه ما لم يحتط لغيره من مصنّفاته. فتراه يقول في صحيحه: "وقال لي علي بن عبد الله" يعني شيخه ابن المديني. وفي تاريخه يقول في القضية الواحدة: "حدثنا علي بن عبد الله".
والسرّ في ذلك أنه لا يعبّر في صحيحه بقوله "قال فلان" إلا في الأحاديث التي يكون في إسنادها عنده نظر، أو التي تكون موقوفة، أو التي رواها مُسنَدةً في موضعٍ آخر. وزعم بعضهم أنه يعبّر في ذلك فيما أخذه في المذاكرة أو المناولة. قال ابن حجر: وليس عليه دليل. بل نقل عن شيخه أبو الفضل نقضه لذلك بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا "قال فلان"، ويورِدَها في موضعٍ آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ.
قال ابن حجر في فتح الباري (5|ص3): «وهذه الصيغة هي "قال لنا" يستعملها البخاري –على ما استقرأت من كتابه– في الاستشهادات غالباً، وربما استعملها في الموقوفات». وقال صالح بن سعيد عومار الجزائري في كتابه "التدليس وأحكامه" (ص255): «وباستقرائي للجامع الصحيح، مع ملاحظة المواضع التي استعمل فيها البخاري هذه الصيغة، ثم الاستعانة بكلام الحافظ ابن حجر في توضيحها، تبين لي أن البخاري رحمه الله، استعمل صيغة "قال لنا" غالباً في الآثار الموقوفة، التي يكون ظاهرها الوقف لكنها تحتمل الرفع وليست بصريحة فيه. واستعملها أيضاً –ولكن في مواضع نادرة– لأغراض أخرى كفائدة في إسناد –نحو التصريح بالسماع من مدلس– أو قصورٍ في السند –كوجود راوٍ فيه ليس على شرطه– أو في المتابعات».

وقال ابن حجر في الفتح (1|188): «وقد ادعى ابن مندة أن كل ما يقول البخاري فيه "قال لي" فهي إجازة، وهي دعوى مردودة. بدليل أني استقريت كثيراً من المواقع التي يقول فيها في "الجامع": "قال لي" فوجدته في غير الجامع يقول فيها: "حدثنا". والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع. لكن سبب استعماله لهذه الصيغة: ليفرق بين ما بلغ شرطه وما لا يبلغ».

وقال الشيخ عبد العزيز الطريفي: «وإذا قال البخاري: "قال فلان"، وهو من شيوخه، كما حكاه عن هشام بن عمار وعلي بن المديني وعبدالله بن صالح وغيرهم، فيظهر أنه أراد أنه دون شرطه في الصحيح، مع ثبوت الاتصال في هذا الخبر لأن البخاري ليس من أهل التدليس. والله أعلم».
ومن هنا سمى الدمياطي: ما يعلقه البخاري عن شيوخه "حوالة". ومثالها حديث المعازف الشهير، الذي علقه البخاري عن شيخه هشام بن عمار، رغم أنه سمعه منه، والسبب هو ضعف حفظ أحد رواة الحديث (عطية بن قيس الشامي).

 

طرق التحمل والأداء عند البخاري:
السماع من لفظ الشيخ: لم يفرق البخاري بين قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا.
القراءة والعرض على المحدث: رجح البخاري أنه لا فرق بين السماع من العالم والقراءة عليه (العرض) وأنهما متساويان. بمعنى إذا قرئ الرجل على المحدث فلا بأس أن يقول: "حدَّثَني".
لا البخاري يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة وإنما يرى صحة الإجازة المقترنة بالمناولة أو المكاتبة. وقد ذكر العلماء للمناولة ثلاثة أنواع هي:
1 – المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة والرواية بها صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين.
2 – المناولة مع الإجازة من غير تمكين من النسخة، يرى الفقهاء والأصوليون أنه لا تأثير لها، ولا فائدة فيها بينما شيوخ الحديث يرون لذلك مزية معتبرة.
3 – المناولة المجردة من الإجازة أجازها طائفة من أهل العلم، وصححوا الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على من أجازها وسوّغ الرواية بها.
والإمام البخاري يعتبر النوع الأول فقط. وأما النوعين الآخرين (وما يتفرع عنهما كالإعلام والوصية والوجادة) فهما من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية محافظة على بقاء الإسناد.
 


ملاحظة: هناك الكثير جداً من الكتب والرسائل التي كتبت عن منهج البخاري في الحديث والفقه، لكن أنفعها وأكثرها فائدة هي رسالة ماجستير من إعداد الشيخ "أبو بكر كافي" بإشراف الدكتور حمزة عبد الله المليباري طبع دار ابن حزم بعنوان "منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح".

 

سكوت البخاري في كتابه التاريخ عن راو لا يعد توثيقا له

قال الألباني في السلسلة الضعيفة (11|#5186): «وجدت عديداً من الرواة جرحهم (البخاري) في كتابه "الضعفاء الصغير" (وهو مخصص عادة للجرح الشديد)، ومع ذلك سكت عنهم في "التاريخ الكبير". فهذا مثلا في المجلد الذي بين يدي أَورد فيه (4|2|106): "نصر بن حماد الوراق، أبو الحارث البجلي، عن الربيع بن صبيح"، وسكت عنه، مع أنه أورده في "الضعفاء" وقال (ص35): "يتكلمون فيه"». وقد يسكت أيضاً عن الراوي الثقة، مثل خالد بن مهران الحذاء، وقد أكثر عنه في صحيحه.

 

متفرقات وفوائد عن البخاري وصحيحه:

1- الإمام البخاري كان من أئمة الفقه المجتهدين. وتبويبه يدل على فقه واسع وذكاء مفرط. وكم من حديث تظنه لا يتعلق بالباب ولكن بعد التأمل تجد أن فيه إشارة ولو بعيدة إليه. لكن هذا التفنن صار سيئة في صحيح البخاري لصعوبة الوصول إلى حديث معين. ولذلك تفوق صحيح مسلم على صحيح البخاري بحسن تبويبه.

 

2- الإمام البخاري كان لا يحب الحنفية. ولذلك كان حريصاً على إيراد أي حديث يرد على الأحناف إن وافق شرطه. لذلك أي حديث يرد على الأحناف لا تجده في صحيح البخاري لا مسنداً ولا معلقاً، فهو قطعاً ليس على شرطه. وغالباً يكون ضعيفاً. إنظر نصب الراية (1|355).

وليس معنى هذا أن البخاري صنف صحيحه للرد على الحنفية، بل هو يرد عليهم في مسائل معدودة خالفوا فيها السنة الصحيحة التي تبين لدى البخاري صحتها. وهي إشارات خفية وبعضها صريحة. وقد سبق الى مثل هذا ، فقوله "قال بعض الناس" أول من استعمله هو الشافعي. ومن أسباب حملة البخاري على الحنفية دون غيرهم من أهل الرأي (كالمالكية)، هو تأثره بشيوخه، وخاصة بالحميدي الذي صنف كتاباً في الرد على الحنفية سمعه منه الكبار (كأبي زُرعة). والسبب الآخَرُ هو انتشار الحنفية في دياره وخصوصا في بلاد ما وراء النهر وفي بلاد خراسان وشدة تعصبهم لمذهب أبي حنيفة. فكان لا بد من الرد عليهم وتنبيههم. ولهذا صنّف "جزء في رفع اليدين" و "جزء في القراءة خلف الإمام". ويُكثر من الاستدلال بابن المبارك، لأنه مُعَظَّمٌ لدى سائر المسلمين من أهل الرأي وأهل الحديث. وكان ابن المبارك عند أهل خراسان هو شيخ الاسلام، وقد كان كذلك رحمه الله. والشاهد أن إشارات البخاري في الرد على أبي حنيفة وأتباعه، تدل على شدة معرفته بالحديث والفقه وتدل على معرفته بدقائق الفقه، على خلاف عادة كثير من المحدثين.

 

3- أخرج البخاري لعدد من المبتدعة الدعاة في صحيحه، لكن ليس فيما ينشر بدعتهم. فأخرج للخوراج وللمرجئة وللقدرية وللشيعة وللنواصب من الدعاة ومن غير الدعاة. ولكن لا أعلم له حديثاً أخرجه لمبتدع يدعو فيه لبدعته.

 

4- وشرط البخاري في الرجال أشد من شرط مسلم، وهو أعلم منه بالعلل وبالفقه. وطريقته في العلل بصرية بحتة، وهي طريقة شيخه ابن المديني (إمام العلل). وأحمد ينهج نهجاً وسطاً بين الكوفيين والبصريين. ومسلم خراساني قريب من منهج أحمد (وهو من تلامذة أحمد الملازمين له)، ويحبذ نهج الكوفيين في العلل على نهج البصريين. والمنهج الكوفي يمتاز بالمرونة. وربما يصح أن نطلق عليه المتساهل المتشدد في آنٍ واحد أمام المنهج البصري. وأحياناً يكون المنهج الكوفي أشد، وخصوصاً في الرجال. وإمام المنهج الكوفي هو ابن معين.

 

5- البخاري قد يروي بالمعنى (وهذا نادرٌ للغاية كما ثبت بالمقارنة وكما أشار الصنعاني في كلامه عن اختلاف أحاديث البخاري ومسلم). ومسلم شديد العناية باللفظ ولا يحدث إلا من أصوله. فإذا اختلف ‏اللفظ بينهما عن نفس الشيخ، كان لفظ مسلم هو الراجح. وقد يكون غير ذلك إن اختلف الشيخ.‏

 

6- لا بُدّ من التفريق بين ما علقه البخاري في صحيحه بصيغة جزم ‏‏(وهو صحيح لكن على غير شرط كتابه)، وبين ما علقه بصيغة التمريض (وهو من نوع الحسن الضعيف الذي يحتمل الصحة إن لم يبين علته)، ‏وبين ما أسنده في كتابه في قسم الأحكام (وهو الصحيح على شرط البخاري).

 

7- غالب ألفاظ الأحاديث التي انتقدوها على البخاري قد أخرجها بلفظها الصحيح في موضع آخر من كتابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (ص86)، وهو في "مجموع الفتاوى" (1|256): «ولا يبلغ تصحيح ‏مسلم مبلغ تصحيح البخاري. بل كتاب البخاري أجلُّ ما صُنِّف في هذا الباب. والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعِلله، مع فقهه فيه. وقد ‏ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه. ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلِفَ في إسناده أو في بعض ألفاظه، أن يذكر ‏الاختلاف في ذلك، لئلا يغترَّ بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه. ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله ‏فيه راجحاً على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجّاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه». ثم ضرب أمثلة.

 

8- وهو أيضاً يتساهل في غير الأحكام تساهلاً خفيفاً مثل باقي أئمة الحديث، كما ثبت لي بالاستقراء وكما أشار إليه بعض ‏الحفاظ. مثال ذلك: حديث الإستخارة في إسناده ضعف يسير وتفرد، ولكنه دعاء في أي حال! ومثاله: حديث من عادى لي ولياً فقد آذنني بالحرب، حديث فيه ضعف بكل شواهده كما بين الذهبي في "الميزان" وابن رجب في "جامع العلوم والحكم". لكن ليس فيه أحكام فقهية، ومعناه حسن. ومثاله: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وهو حديث جميل جداً لكن إسناده فيه ضعف يسير. وغالب ما كان عند البخاري وليس عند أحمد أو عند مسلم فهو حديث فيه علة. وقد تكون العلة غير قادحة إلا أنها تنزله من مرتبة أعلى الصحيح. ذلك أن شرطيهما أسهل بكثير من شرطه، فتأمل.

فمن هذا حديث "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وحديث الاستخارة، فيه عبد الرحمن بن أبي الموال، وفيه كلام. وقد أنكروا عليه حديث الاستخارة هذا. وانظر ما كتبه ابن عدي في الكامل عنه. وحديث "من عادى لي ولياً" غريبٌ جداً. إنظر جامع العلوم والحكم (1|357)‏. قال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (26|97): «هو من غرائب الصحيح، مما تفرد به شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي ‏هريرة. وتفرد به خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن شريك». وكلاهما فيه ضعف.‏  وشرط البخاري في أحاديث الأحكام، أنه لا يأخذ إلا الطبقة الأولى في أصل الباب من أصحاب المحدثين الكبار. فيأخذ مالك ومعمر عن الزهري، ويترك الكثير من الثقات ممن حدثوا عن الزهري لكن لم يلازموه طويلاً. وقد تفرد شريك -على لينه- عن عطاء. مع أنه لو كان للحديث أصل لرواه الحفاظ ولتناقلوه فرحوا به، لشدة جماله ولأنه ممن يرفعهم قدراً بين الناس. وقد قال عنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1\360): «إنه أشرف حديث في ذكر الأولياء».‏

فهذه الأحاديث على التسليم بصحتها، فإنها ليست على شرطه قطعاً. وهو لم يُعَلّقها حتى نقول أنها خارج شرط الصحيح. وقد ترك في الأحكام أصح منها بكثير. فمثل هذه الأحاديث مجرد أمثلة على أن ما يخرجه البخاري في غير الأحكام ليس على نفس شرطه، بل يتساهل. وأرى أن هذا مذهب مقبول منه. والله أعلم.

 

9- الشائع أن البخاري لم يخرج في صحيحه عن الأحناف. لكن يظهر أن ذلك ليس على إطلاقه، فقد خرّج لمعلى بن منصور وحفص بن غياث (وفي نسبة الأخير لأبي حنيفة خلاف).

 

10- نقل ابن حجر عن الكرماني قوله: «مع أن البخاري في جميع ما يروده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم. وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما. وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما». أقول: أما نقله في تفسير الغريب عن كبار النحويين كأبي عبيدة والفرّاء، فهذا مقبول لا بأس به، لأن اللغة إنما تكون بالتلقي لا بالاستنباط. وأما أنه يقلد الشافعي في المباحث الفقهية، فهذا باطل. لأن البخاري أحد أئمة الفقه المجتهدين، بل هو من كبار الفقهاء. وقد فضله جماعة على أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. فالإمام البخاري لا يقلد أحداً (لا الشافعي ولا أحمد ولا أبا عبيد ولا غيرهم). وصحيحه -وما تضمنه من أختيارات- يدور فيها مع النص، يخالف فيها الأئمة أو بعضهم. وأما أن يقلد المبتدعة كالكرابيسي وابن كلاب في الاعتقاد، فحاشاه. بل هو على معتقد أهل السنة والجماعة كما يظهر ذلك جلياً لمن قرأ الصحيح في مسائل الإيمان والتوحيد وغيرها. ومن أراد أن يعرف الفرق بين مذهب الإمام البخاري وبين ابن كلاب والكرابيسي وغيرهما، فليقرأ في "درء تعارض العقل والنقل" (1|ص270–276).

 

11- لا يبالغ البخاري في ألفاظ الجرح والتعديل. إذ يلاحظ تورعه عن استعمال ألفاظ حادة في الجرح. فغالباً ما يقول: فيه نظر، يخالف في بعض حديثه، وأشد ما يقول: منكر الحديث. وكذلك لا يبالغ في ألفاظ التوثيق، بل يكتفي بقول: ثقة، أو حسن الحديث، أو يسكت عن الرجل.