أعفوا اللحى وحفوا الشوارب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره. وبعد: فإن مسألة اللحية من المسائل التي لم يكن يذكرها أهل العلم إلا في هامش كتب الفقه ولا نعلم أحداً أفردها في مصنف مستقل، ولا نعلم أحداً ناظر عليها. ولم يحدث ذلك إلا في عصرنا الحالي، كأنه لم يبق من مسائل الفقه إلا هذه! ولولا تعصب بعض الناس فيها وتبادلهم التفسيق والتضليل من أجل طول بعض شعرات، لما كتبت هذا المقال. فقد جعلوا من يأخذ من لحيته عاصياً، ومن يحلقها ملعوناً فاسقاً مرتكباً لكبيرة من الكبائر لا تجوز الصلاة خلفه! وسيتبين لك أن القول بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً لا يجوز، لأنه قول لم يقل به أحد من السلف.

تخريج الحديث وبيان فقهه

روى نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله r: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وأَعفوا اللِّحَى». هذا أصح ألفاظ الحديث، وقد رواه يحيى بن سعيد وابن نمير، عن عُبيد الله، عن نافع (عند مسلم). ورواه مالك، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه نافع. وكذلك رواه أحمد عن غير نافع، فذكر عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن علقمة، يقول: سمعت بن عمر يقول: قال رسول الله r: «أعفوا اللحى وحفوا الشوارب». وكذلك أخرجه مسلم عن سهل ابن عثمان، عن يزيد بن زُرَيْعٍ، عن عمر بن محمد بن زيد (ثقة لكنه ليس من أثبت الناس في نافع)، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله r: «خالفوا المشركين: أحفوا الشوارب واعفوا اللحى». لكن البخاري رواه عن محمد بن منهال عن ابن زريع بلفظ «وفروا اللحى»، وهذه رواية بالمعنى. ومثلها رواية عبدة بن سليمان، عن عبيد الله «أنهكوا الشوارب». فاللفظ الصحيح عن ابن عمر هو الأمر بالإعفاء.

وروى مسلم عن أبو بكر الصاغاني (ثقة ثبت)، عن سعيد بن أبي مريم (ثقة ثبت)، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير (ثقة)، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى. خَالِفُوا الْمَجُوسَ». ورواه أحمد عن منصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي (ثقة ثبت) قال ثنا سليمان بن بلال (ثقة إمام) عن العلاء، بلفظ: «خذوا من الشوارب واعفوا اللحى». وأحسب الاختلاف من العلاء، فلم يكن من الحفاظ. ولفظ الإعفاء أولى لأنه ثابت في حديث ابن عمر.

وكلمة "اعفوا" لها عدة معان في اللغة العربية فهي من المشترك اللفظي، أي تعني الإطلاق وتعني التخفيف كذلك، فيقال "عفت الديار من سكانها" إذا خلت. ابن عبد البر: «أما اللغة في اعفوا فمحتملة للشيء وضده كما قال أهل اللغة». لكن فهم السلف أن كلمة "أعفوا اللحى" المقصود منه تكثير اللحية، ولو أخذ منها ما زاد على القبضة. قال ابن الأثير في النهاية (3|266): «ومنه الأمر بإعفاء اللحى: أن يوفر شعرها، ولا يقص كالشوارب، من عفا الشيء إذا كثر وزاد». فجعل ابن الأثير أعفوا بمعنى التكثير، وليس بمعنى الترك، ونهى عن قصها كالشارب، وليس عن الأخذ منها مطلقاً حتى ولو زادت عن القبضة. ولا أعلم أن أحداً من السلف فهم حديث "أعفوا اللحى" بمعنى الترك المطلق، بل فهموا أن أعفوا بمعنى التكثير. وليس النقاش أن أعفوا تأتي في اللغة بمعنى الترك، فهذا أمر مسلم فيه، فإن أعفوا له معان كثيرة منها الترك، ومنها التكثير ومنها معان أخرى لم أذكرها وهي في كتب أهل اللغة، فإذا قصد بالأمر الشرعي أحد معانيه اللغوية، وفهم السلف هذا الفهم فلا يحتج علينا باللغة، لأننا نقول: هل كان السلف لا يعرفون اللغة العربية عندما أجازوا أخذ ما زاد على القبضة؟ وهل كان تفسير الإعفاء بالتكثير معنى منتحلاً ومزوراً، أو هو موجود في كتب اللغة أيضاً؟ فمن قال: إن الإعفاء يعني الترك فليأت به من كلام أهل الفقه، ومن فهم السلف. بل إن بعض العلماء كابن الجوزي يرى أن طول اللحية الفاحش يدل على الغباء، ونقل عن كثير من العلماء ذم اللحية الطويلة وصاحبها، وهذا يدل على أنهم يرون التقصير. وهو نفسه كانت لحيته قصيرة.

مذاهب الأئمة الأربعة

قال محمد بن الحسن في "الآثار (900): «أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة». وفي التمهيد (24|145): قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: «لا بأس أن يؤخذ ما تطايل من اللحية وشذ». فقيل لمالك: فإذا طالت جداً؟ فإن من اللحى ما تطول. قال: «أرى أن يؤخذ منها وتقصر». فهذا مذهب مالك. أما عن مذهب الحنابلة فقد قال الخلال في كتاب الجامع (كتاب الترجل 113): أخبرني حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: «إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة». وكأنه ذهب إليه. قلت له: ما الإعفاء؟ قال: «يُروى عن النبي r». قال: كأن هذا عنده الإعفاء. وقال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق (بن هانئ) حدثهم قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: «يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة». قلت: فحديث النبي r أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى؟ قال: «يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه». ورأيت أبا عبد الله (أحمد) يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. اهـ. أما الإمام الشافعي فقد ذكر استحباب الأخذ من اللحية داخل النسك، وقد سكت عن ذلك خارج النسك فلم ينص على كراهته.

مذاهب الصحابة

نلاحظ أن راويي الحديث ابن عمر وأبو هريرة قد روي عنهما الأخذ من اللحية دون القبضة. والأثر عن ابن عمر مذكور في صحيح البخاري. فالصحابي راوي الحديث هو أدرى الناس به، وكلاهما من فقهاء الصحابة وهما حجة في اللغة كذلك. ولا يُعلم أحدٌ من الصحابة أبو التابعين أنكر على ابن عمر (أو غيره) الأخذ من اللحية أو حتى سأله عن ذلك. مع أن اللحية في الوجه، والأخذ منها يظهر لكل الناس. فدل هذا على أن الأخذ من اللحية أمر سائغٌ متعارف عليه بينهم. بل هناك من نقل إجماعهم على جوازه. وابن عمر مشهور عنه أنه شديد الحرص على اتباع المصطفى (r) حتى في الأمور التي لم يُؤمر بها مثل وضوءه في موضع معين، وصبه الماء وصلاته في بعض المواضع التي تتفق له في سفره. ووجدنا أن أئمة الإسلام -بما فيهم الأئمة الأربعة- يحتجون بفعل ابن عمر ويعتبرونه موضحاً للحديث.

ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (الحـج:29). فسره ابن عباس، فقال: «التفث: الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار واللحية». أخرجه ابن أبي شيبة (3|#15673) بإسناد صحيح، قال: نا ابن نمير عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس به. وإسناده صحيح. وأخرجه ابن جرير (10|149) حدثنا حميد بن مسعدة قال: ثنا هشيم أخبرنا عبد الملك به، وفيه «والأخذ من العارضين». وكذا روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي كما في تفسير الطبري (10|149). وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم النخعي: «كانوا يأخذون من جوانب اللحية». وكل ذلك صحيح وقد جاء غير مقيد بنسك. وحكى عطاء بن أبي رباح عن جملة الصحابة، قال: «كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة». أخرجه ابن أبي شيبة (5|#25482) بإسناد صحيح، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت عطاء. وعطاء مفتي مكة كان أعلم التابعين بالمناسك، وقد ذكر أنه أدرك مئتين من الصحابة.

فإن قيل: إن الصحابة لم يأخذوا إلا في النسك (أي الحج أو العمرة)؟ قيل: ثبوته في النسك دليل على جوازه خارج النسك. ولأن النسك قيدٌ غير مؤثر، كما لو قرأ الرسول (r) سورة في صلاة، وكانت الصلاة في السفر، لا يقال: إن ذِكر السفر قيدٌ في استحباب قراءة هذه السورة. وقد أخرج مالك بسنده عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج. فيُفهم من هذا الأثر أن ابن عمر إذا لم يرد الحج، فإنه يأخذ من رأسه ومن لحيته. وعلى هذا يكون غير مقيد بالنسك. ويؤيد هذا ما جاء عن ابن عمر مطلقا. وقد روي كذلك عن بعض السلف إباحتهم الأخذ من اللحية من غير حدِّ ولا توقيت. فإن قيل إن من السلف من كره الأخذ من اللحية خارج النسك. فنقول: نعم ولم يحرموه، وفرق شاسع بين الأمرين. و لا أعلم أحداً من السلف قال: لا يجوز الأخذ من اللحية مطلقاً، ولا عبرة بقول المتأخر؛ لأن المتأخر إنما هو متبع لمن سلف، وابتداع قول جديد في مسألة فقهية قديمة لا يسوغ. وقد قال الطبري (كما في عمدة القارئ 22|46): ثبتت الحجة عن رسول الله (r) على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحَدّه. فهذا ابن جرير الطبري يرى وجوب الأخذ من اللحية، وينسب هذا إلى السلف وإنما اختلافهم في قدر ما يؤخذ من اللحية، لا في تحريم الأخذ. وقوله: "محظور إعفاؤها" يقصد الإعفاء بمعنى الترك، وإلا الإعفاء بمعنى التكثير فهو واجب. هذا من كلام السلف أما من كلام المعاصرين، فقد نقل الألباني رحمه الله إجماع السلف على وجوب أخذ ما زاد على القبضة، وذكر أن ترك ما زاد على القبضة لم يجر العمل به عند السلف.

بقي جواب على سؤال أسمعه كثيراً، أن عمدة من يحرم الأخذ من المعاصرين أن الصحابة كانوا يعرفون قراءة الرسول (r) من اضطراب لحيته، وكان (r) كث اللحية كثير شعر اللحية. والجواب على هذا أن كونه (r) كث اللحية حجة لنا لا لهم، لأن معناها أنها قصيرة ليس فيها طول. قال ابن المنظور (ت711هـ) في "لسان العرب": «وفي صفته (r)، أَنه كان كَثَّ اللحية: أَراد كَثرةَ أُصولها وشعرها، وأَنها ليست بدقيقة، ولا طويلة، وفيها كَثافة». وقال الفيروز آبادي (ت817هـ) في "القاموس المحيط": «وكَثَّ بسَلْحِهِ رَمَى واللِّحْيَةُ كَثاثَةً وكُثوثَةً وكَثَثاً كَثُرَتْ أُصُولُها وكَثُفَتْ وقَصُرَتْ وجَعِدَتْ». وجاء في المعجم "الوسيط": «(كَثَّ) الشعرُ -ِ كُثُوثَةً، وكَثَاثَةً: اجتمع وكثُر في غير طول ولا رِقَّة. فهو كَثٌّ، وهي كِثَّةٌ. ويقال: رجُلٌ كَثُ اللَّحية وكثِيثُها. (ج) كِثاثٌ. (كَثَّ) الشَّعْرُ -َ كَثَثًا: اجتمع وكثر في غير طول ولا دِقَّة. فهو أَكثٌّ، وهي كثَّاءُ. (ج) كُثٌّ. ويقال: رجل أَكَثُّ، ولحية كَثَّاءُ». وفي المعجم "المحيط": «كَثَّ يَكَثُّ اِكْثَثْ كَثَثاً :- الشَّعْرُ: اجتمع وكثر في غير طول ولا دِقَّة؛ كَثَّتْ لحيتُه». وفي "محيط المحيط": «كثَّ الشَعر يكِثُّ كَثَاثَةً وكُثُوْثَةً كَثُفَ . واللحية اجتمع شعرها وكثر نبتهُ من غير طول وكثف وجعد». فقد فسر أهل اللغة من اللغويين والفقهاء أن كلمة كث تعني الشعر الكثير غير الطويل. جاء في تاج العروس: «كث اللحية وكثيثها، أراد كثرة أصولها وشعرها، وأنها ليست بدقيقة، ولا طويلة، ولكن فيها كثافة». وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، وهو من أهل اللغة والفقه، قال: «كث اللحية: الكثاثة في اللحية: أن تكون غير رقيقة ولا طويلة، ولكن فيها كثافة».

فهذا تفسير أهل اللغة والفقه: بأن لحية الرسول (r) كثيرة الشعر، ليست بالطويلة. ولم يأت مقدار طولها في حديث، والظاهر من تصرف الصحابة أنها كانت بمقدار قبضة، والله أعلم. وكذلك جاء في مسلم: " كان كثير شعر اللحية " لا يلزم منه أن تكون طويلة إلى حد تتجاوز القبضة. فقد يقول قائل: لعل لحية الرسول (r) كانت قصيرة بمقدار قبضة خِلقة دون أن يأخذ منها. وهذا لو قالوه عن صاحبي فهو وارد، لكن الله قد جعل رسوله (r) في أبهى وأحسن صورة، فما قدر العرب أن ينتقدوا عليه أي شيء في خَلقه ولبسه. فكان مبرئاً من كل عيب. ومن لم يعجبه أن يتشبه برسولنا (r) في قصر لحيته، فنحن نحب أن نتشبه به.

وقولهم أنها كانت تملئ ما بين منكبيه، فهذا كذلك يدل على أنها كانت بمقدار قبضة، فإن المَنْكِبَ هو مُجْتَمَعُ رأْسِ الكَتِفِ والساعد. أما اضطراب اللحية فإنه ليس نصاً في الموضوع، لأن من كانت لحيته دون القبضة فهي تضطرب عند القراءة، فما بالك بمن كانت لحيته بمقدار القبضة؟ وهي غالب لحى المسلمين اليوم ممن يعفون لحاهم. فالنص أنها تضطرب لفظ مجمل، يرد إلى اللفظ الصريح، وهو كونه كث اللحية: الشعر الكثير ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بد من الجمع بين النص على أنه كث اللحية أي كثير شعر اللحية من غير طول فيها، وبين النص أنها تضطرب عند القراءة، فيقال: إن فيها طولاً لا يتجاوز القبضة.

ولعل البعض يقول: إن ما ورد في النصوص المنقولة عن السلف من ذكر الحج أو العمرة دلالة على أن لهما مزية معينة. والجواب: لكن خصومنا لا يقرون بهذا! فهم لا يقبلون بالتقصير لا في الحج ولا في غيره. ولعلهم يعتبرون الصحابة عصاةً ويقبلون اتفاقهم على الخطأ في فهم الحديث، رغم أن المسألة غير اجتهادية. فمن غير المعقول أن يتفق الصحابة على تقصير اللحية في الحج والعمرة نتيجة سوء فهمهم للحديث، وهم حجة في اللغة العربية، وقد شاهدوا الرسول (r) وشاهدوا لحيته ونسكه. ومعلومٌ أن الأمر بالإعفاء قد جاء مرتبطاً بمخالفة المشركين والمجوس. فهل كان الصحابة يتشبهون بالمجوس والمشركين أثناء الحج والعمرة؟! وهل يُعقل أن يتقرب مسلمٌ لربه في الحج بمعصية؟! ولا سبيل للخروج من هذا إلا بإقرارهم بأن الأخذ من اللحية ليس معارضاً للأمر بالإعفاء. فإن المجوس كانوا يحلقون لحاهم، فأنت إذا أعفيت عن لحيتك فقد خالفتهم، وإن كنت تأخذ منها. وبما أنّ الأمر النبوي قد جاء بتوفير اللحية، فالظاهر أنّ لحية الرجل مادامت من الطول بحيث توصف بالوفرة فقد حصل المطلوب، بغض النظر عن طولها بالتحديد.

وقول المخالف: «مشابهة المجوس الذين نهينا عن مشابهتهم في نفس الحديث تكون بالتقصير، لأن المجوس لم يكونوا يطيلون لحاهم» غير صحيح. فإن المجوس كانوا يحلقون لحاهم كما في الحديث، ومخالفتهم تكون بعدم حلقها (سواء كانت قصيرة أم طويلة). والمانعون للأخذ من اللحية لا يسعفهم الدليل من كتاب الله أو سنة الرسول (r). وغاية ما يستدلون منه أقوال بعض العلماء وهي ليست بحجة. ولنا إجماع الصحابة كلهم على جواز الأخذ من اللحية. وقول الصحابي حجة عند الجمهور إذا لم يعارضه أحد، فكيف وهذا إجماع منهم؟ والذين أجازوا الأخذ من اللحية أفقه وأعلم ممن منع ذلك. والذين يمنعون الأخذ منها خالفوا السنة وخالفوا الصحابة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وفوق هذا يخطئون غيرهم!!

حكم حلق اللحية

يرى جمهور العلماء تحريم حلق اللحية في حال قوة المسلمين. وبالغ بعض المعاصرين بزعم الإجماع على ذلك، وهو مردود، فالخلاف ثابت، ومن العلماء من يرى الكراهة دون التحريم. واستدل هؤلاء بعدة أدلة منها:

والذين قالوا بالوجوب اعترضوا على ما سبق بما يلي:

ومما يوهّن دعوى الإجماع أن المعتمد في المذهب الشافعي هو الكراهية لا التحريم. وليس للإمام الشافعي نص في المسألة ولا أحد من أصحابه، لكن هذا ما حرره المتأخرون بناءً على أصول المذهب. أما ادعاء ابن الرفعة (معاصر لابن تيمية) بأن الشافعي نص في كتاب "الأم" على التحريم، فهو غلطٌ منه في الفهم. فكلام الشافعي (6|88) في "جراح العمد" عن الحلق: «وهو وإن كان في اللحية لا يجوز...».‏ وكلمة لا يجوز قد تعني الكراهة كذلك، فلذلك لم يره محققوا الشافعية نصاً في التحريم. والحليمي (ت403) الذي ربما يكون أول من قال بالتحريم من الشافعية، قد سبقه الخطابي (ت388) وقد قال بكراهة الحلق وندب التوفير في "معالم السنن". والفتوى عند الشافعية المتأخرين تكون على ما قرره الرافعي والنووي، وابن حجر والرملي. وقد ذكر الغزالي (505هـ) في "إحياء علوم الدين" (1|142) خصال مكروهة في اللحية منها: «نتفها أو بعضها بحُكم العَبَث والهوس، وذلك مكروه»، والنتف أشد من الحق. كما نقل الإمام النووي (676هـ) في شرح مسلم (3|149) عن العلماء، حيث ذكر اثنا عشر خصلة مكروهة في اللحية، منها: «حلقها». ونص صراحة على الكراهية في كتابه "التحقيق" الذي كتبه بعد المجموع والروضة، كما في مقدمته. وكذلك فهم المتأخرون من الشافعية كلامه على الكراهة. ويكفي في ذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي إذ هو عمدة المتأخرين، فانظر كلامه في "تحفة المحتاج " والحواشي عليه (9|376)، وفي الحاشية النص على أن الرافعي والنووي يريان الكراهة. وقال الرملي الشافعي في فتاواه (4|69): «حلق لحية الرجل ونتفها مكروه لا حرام. وقول الحليمي في منهاجه: "لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه"، ضعيف».‏ وفي حاشية البجيرمي على الخطيب (كتاب الشهادات)، الكراهية كذلك. وقال زكريا في أسنى المطالب: «قوله "ويكره نتفها" أي اللحية إلخ، ومثله حلقها. فقول الحليمي في منهاجه "لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه" ضعيف». وكذلك قال الدمياطي في "إعانة الطالبين" (2|240) عند قول الشارح "ويحرم حلق اللحية" ما نصه: «المعتمد عند الغزالي، وشيخ الإسلام (زكريا الأنصاري) وابن حجر في "التحفة"، والرملي، والخطيب (الشربيني)، وغيرهم: الكراهة»، ثم ضعّف قول الشارح مبينا أن المعتمد هو الكراهة.

وكذلك ليس هناك نص عن مالك ولا وأصحابه، لكن الذي قرره أكثر المتأخرين هو التحريم، وبعضهم قال بالكراهة. قال القاضي المالكي عياض (ت544هـ) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (والنقل من غيره) (2|63) عن أحكام اللحية: «يكره حلقها وقصُّها وتحذيفها. وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن. وتكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها، كما تكره في قصها وجزها. وقد اختلف السلف: هل في ذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد إلا أنه لم يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً. ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال. ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة». والكراهة هنا تنزيهية كما هو واضح، لأن كل الأمور التي كرهها هي غير محرمة.

والكراهة هي الرواية عن أحمد. إذ سأله مُهنّا (كما في المغني 1|66) عن حف الوجه، فقال: «ليس به بأس للنساء، وأكرهه للرجال». والحف هو أخذ الشعر من الوجه، والكراهة التنزيهية هي الأصل كما قرره الشيخ بكر في "المدخل". وقال المروذي: قيل لأبي عبد الله: تكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه؟ فقال: «أما أنا فلا أحلق قفاي». وقال صالح بن أحمد في "المسائل": وسألته عن رجل قد بُلِيَ بنتف لحيته، وقطع ظفره بيده، ليس يصبر عنهما؟ قال: «إن صبر على ذلك، فهو أحب إلي». وأول من صرح بالتحريم من الحنابلة هو ابن تيمية (ت728هـ) ثم تلامذته. بينما الذي كان قبل ذلك هو التنصيص على الندب والاستحباب والسُنّية. فمثلاً قال الشمس (وهو ممن لا يخرج عن أقوال أحمد، ت682هـ) في الشرح الكبير (1|255): «ويستحب إعفاء اللحية». وقال ابن تميم الحراني (ت675هـ) في مختصره (1|132): «ويستحب توفير اللحية». وقال ابن عمر الضرير (ت 684هـ) في الحاوي الصغير (ص26): «ويسن أن يكتحل وترا بإثمد، ويدهن غبا، ويغسل شعره ويسرحه ويفرقه، ويقص شاربه، ويعفي لحيته». وقال ابن عبد القوي (ت699هـ) في "منظومة الآداب" (ص40): «وإعفاء اللحى ندب». ولا يضر إيجاب الدية في حلق اللحية إذا كانت لا تعود، لأن الأمر كذلك في حلق الرأس، ومعلومٌ أنه لا يحرم حلق الرأس في المذهب.

 أما لو كان شعر الخدين كثيراً، بحيث نبت الشعر في أعلاهما، وهو ما يعرف في لسان العرب بشعر الوجنتين، فالجمهور على جواز إزالته، لخروجه عن مسمى الخد. وكذلك الشعر الذي على الرقبة ليس من اللحية. فإن اللحية هي الشعر الذي نبت على الخدين والذقن فقط. والله تعالى أعلم.

وهذا كله في دار الإسلام، أما في غيرها فليس الإعفاء عن اللحية مستحباً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص176): «كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة ثم نُسِخَ ذلك، لأن اليهود إذ ذاك كانوا لا يميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس لا بعلامة ولا غيرها. ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى. وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار. فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء، لم يشرع المخالفة لهم. فلما كمل الدين وظهر وعلا، شُرِعَ ذلك. ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر. بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة». وأيد هذا ابن عثيمين في تعليقاته على "الاقتضاء".
 

معنى حف الشارب

بقي الكلام عن معنى حف الشارب. وقد اختلف العلماء في معنى الحف، فمنهم من قال التقصير ومنهم من قال الحلق. وقد جاءت آثار صريحة عن بعض الصحابة بقص الشارب، وجاءت آثار كذلك ظاهرها الحق. قال ابن حجر في فتح الباري (10|348): «لكن كل ذلك محتمل لأن يراد: استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا. ومحتملٌ لأن يراد: استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها. نظرا إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الآكل وبقاء زهومه المأكول فيه. وكل ذلك يحصل بما ذكرنا. وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك». والنبي (r) عبّر –فيما يتعلق بالشارب- بألفاظ منها: "قص الشارب – إحفاء الشارب – جز الشارب - الأخذ من الشارب - إنهاك الشارب - حف الشارب" (صحت أول أربعة ألفاظ). ولم أرَ في حديث واحد التعبير بلفظ "حلق الشوارب". مع أنه (r) عبّر بهذا اللفظ فيما يتعلق بالنسك، وفيما يتعلق بالعانة. وعبّر فيما يتعلق بالإبط بالـ "النتف". فلما تباينت الألفاظ، اقتضى الأمر التغاير في الأفعال. وألفاظ الشارع مقصودة لذاتها. ورسول الله (r) فصيحٌ دقيقٌ في انتقاءه لكلماته.

وأخرج الترمذي (5|93) حديث: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا»، وصححه. وهذا صريحٌ في أن المراد بعض الشارب، أي المقصود هو القص لا الحلق. فالسنة هي المبالغة بالتقصير دون الإزالة. وفي حديث أنس في صحيح مسلم: «وقّت لنا رسول الله (r) قي قص الشارب... ألا نترك أكثر من أربعين ليلة». وهذا صريح أن المراد هو القص، لا الحلق. وكلمة "الحف" محتملة عند اللغويين، أما القص فصريحة. فالأولى حمل اللفظ المُجمل على المُفَسّر. قال ابن عبد البر في التمهيد (21|66): «إنما في هذا الباب أصلان: أحدهما "أحفوا الشوارب"، وهو لفظ مُجملٌ محتملٌ للتأويل. والثاني "قص الشارب" وهو مُفَسَّر. والمفسر يقضي على المجمل، مع ما روي فيه أن إبراهيم أول من قص شاربه، وقال رسول الله (r): "قص الشارب من الفطرة" يعني فطرة الإسلام. وهو عمل أهل المدينة. وهو أولى ما قيل به في هذا الباب».

وأخرج أحمد (4|252) أبو داود (1|97): عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المغيرة بن شعبة قال: «ضفت النبي (r) ذات ليلة، فأمر بجنب فشوي. وأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه. فجاء بلال فآذنه بالصلاة، فألقى الشفرة وقال: ماله تربت يداه؟ وقام يصلي. وكان شاربي وفّى، فقَصّه لي على سواك -أو قال: أقصه لك على سواك». وفي رواية البيهقي (1|150): «فوضع السواك تحت الشارب، فقصّ عليه». يعني: وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ الشعر بالمقص. وهذا نص صريحٌ لا يقبل التأويل. وقد احتار متعصبة الحنفية في رده، فقال الطحاوي: «يجوز أن يكون النبي (r) فعل ذاك ولم يكن بحضرته مقراض يقدر على إحفاء الشارب»، وهي مكابرة لأنه إن لم يقدر على الحلق يمكنه قص الشارب كله دون الحلق. وكأن الطحاوي شعر بوهاء تأويله، فرجع وقال أن القص جائز لكن الحلق أفضل. وهذا يرده الحديث كذلك، فإن فعل رسول الله (r) يشرح قوله. مع أن الطحاوي تلاعب في الألفاظ قبل ذلك فقال: «فذهب قوم من أهل المدينة إلى هذه الآثار واختاروا لها قص الشارب على إحداثه. وخالفهم في ذلك آخرون (يعني الحنفية) فقالوا بل يستحب إحفاء الشوارب». مع أن أهل المدينة ما قالوا القص أفضل من الإحفاء، بل قالوا الاحفاء هو القص بعينه.

قال الإمام مالك في الموطأ (#1710): «يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإطار. ولا يجزه فيمثل بنفسه». وذكر ابن عبد الحكم عنه قال: «وتحفى الشوارب، وتعفى اللحى. وليس إحفاء الشارب حلقه. وأرى أن يؤدب من حلق شاربه». وقال أشهب: سألت مالكا عمن يحفي شاربه؟ فقال: «أرى أن يوجع ضربا»، وقال لمن يحلق شاربه: «هذه بدعة ظهرت في الناس». وما زعمه الطحاوي من أن ابن عمر كان يحلق شاربيه فهو غلط. فهذا مالك من أعلم الناس بابن عمر، ومالك عن نافع عن ابن عمر هي سلسلة الذهب. فلو كان مالك يعلم أن ابن عمر أو أحد من الصحابة في المدينة كان يحلق شاربه، ما قال "بدعة ظهرت في الناس". واحتج مالك بما رواه عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب: كان إذا غضب فتل شاربه، فدل على أنه كان يوفره. وقد ادعى قومٌ أنه لا بد للمرء أن يترك شاربه حتى يكون فيه الشعر ثم يحلقه بعدُ. وهذا ليس لهم بحجة، لأن المسلم لا يُشرع له أن يبقيه حتى يطول جداً ويغطي فمه. كما أن ظاهر الحديث عن عمر هو اعتياده لفتل شاربه، مما يدل على مصاحبة ذلك الوصف له. وليس فيه إشكال لأن إطالة الشاربين من طرفي الفم ليس مخالفاً للحديث.

قال ابن عبد البر في التمهيد (24|143): «ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن الذي يحفي من الشارب هو الإطار، وهو طرف الشفة العليا. وأصل الإطار جوانب الفم المحدقة به، مع طرف الشارب المحدق بالفم. وكل شيء يحدث بشيء ويحيط به، فهو إطاره. وحجة من ذهب هذا المذهب قول رسول الله (r): "خمس من الفطرة" فذكر منهن قص الشارب. فقوله: "قص الشارب" يفسر قوله: "إحفاء الشوارب" والله أعلم». وقال القرطبي: «وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع فيه الوسخ... والجز والإحفاء هو القص المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك». قال الطبري: «وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة، بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ». ولا يوجد نص عن الشافعي في هذا الباب، لكن قال النووي: «المختار (في قص الشارب) أنه يُقص حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفه من أصله. وأما روايات "احفوا الشوارب" فمعناها: (أزيلوا) ما طال على الشفتين»، وقد صرح في المجموع أن هذا مذهب الشافعية.

وخلاصة البحث أن حف الشارب هو: قص حافته النازلة عن الفم. فإن كان شاربيه طويلين (شنبات) فعليه فتلهما وإزاحتهما عن الفم كما روي عن عمر، وما كان فوق أوسط الفم فيستحب قص ما نزل منه على الفم حتى يظهر البياض الذي فوق الشفة. وحلق الشارب كله، تشبه بالنساء وخلاف الفطرة. وهي بدعة مذمومة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وفاعل ذلك يجب أن يوجع ضرباً كما أفتى الإمام مالك، لأن الخلاف غير معتبر. فهو مخالف لسنة أحد الخلفاء الراشدين، ومخالف لما نقله أهل المدينة جيلاً عن جيل، مخالف للفطرة السليمة حيث يجعل حلق الشارب مع إطالة اللحية شكل الإنسان أقرب للقرد. فلذلك يُعمل بفتوى مالك، والله أعلم.