رسالة في أن الذكر الجماعي سنة مؤكدة

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين و على آله و صحبه أجمعين

وبعد

هذه رسالة موجزة أكتبها على عجل لما رأيته من التحامل الزائد من البعض -هداهم الله- ينكرون على الناس تكبيرهم في المساجد تكبيرا جماعيا على ما جرت به عادة المسلمين سلفهم وخلفهم وأقره علماء الأمصار على مر السنين وتتابع عليه عمل الناس. أما لماذا خفيت هذه السنة المباركة على بعض العلماء تأتيك الإجابة من الإمام الفاكهي في أخبار مكة (3|9): عن ثابت قال: «كان الناس يكبرون أيام العشر حتى نهاهم الحجّاج، والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم يكبر الناس في الأسواق في العشر». وإسناده صحيح كما ذكر محققه. فهل تريد أن تكون تبعا للحجاج ومفرحاً لقلوب اليهود والنصارى الحاقدين على كل مظهر وحدة للمسلمين؟

و قد نظرت إلى أدلة المخالفين فرأيت أنهم يعتمدون في إنكارهم للذكر الجماعي على أمرين: أولهما أثار ضعيفة يؤولونها بغير معناها. و ثانيهما ظنهم بأنه لم يرد في الذكر الجماعي أية أدلة عن السلف الصالح فهو إذا بدعة. قلت أما عن الحديث فسنبين بإذن الله أن سنده ضعيف و أن معناه ليس له علاقة بموضوع الذكر الجماعي. أما أن الذكر الجماعي عند السلف الصالح فهذا ما سنبينه بالأدلة المسندة الصحيحة إن شاء الله.

أما قراءة القرآن قراءة جماعية فهي من المسائل التي اختلف فيها العلماء، فبعضهم يراه بدعة، وبعضهم يراه أمراً مستحسناً، ويعتمد على ظاهر الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" مسلم (#2699)، وهو بظاهره يدل على جواز الاجتماع للقراءة وللتذاكر. وجاء عن الأوزاعي أنه سُئل عن الدراسة بعد الصبح والاجتماع بعد الصبح، وقال: إن ذلك لا بأس به، وقال: أخبرني حسان بن عطية أن أول من أحدثها هشام بن إسماعيل المخزومي في خلافة عبد الملك بن مروان فأخذ الناس بذلك، فالمسألة فيها خلاف بين العلماء، فبعضهم أنكر ذلك على هشام، وبعضهم قال: إن ذلك لا بأس به. وقد ذكر حرب أنه رأى أهل دمشق وأهل حمص وأهل البصرة يجتمعون على القراءة بعد صلاة الصبح، ولكن أهل الشام يقرؤون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل البصرة وأهل مكة يجتمعون ويقرأ أحدهم عشر آيات والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشر آيات حتى ينفضوا، قال حرب: وكل ذلك حسن جميل. يراجع بذلك ابن رجب الحنبلي "جامع العلوم والحكم".

 

مناقشة أدلة المخالفين

1- الأثر المنسوب إلى عمر رضي الله عنه.

قال ابن أبي شيبة (5|290): حدثنا معاوية بن هشام قال: حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي عثمان قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب إليه أن هاهنا قوما يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر أقبل وأقبل بهم معك فأقبل وقال عمر للبواب أعد لي سوطا فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضربا بالسوط. فقال: يا عمر إنـّا لسنا أولئك الذين يعني أولئك قوم يأتون من قبل المشرق. معاوية بن هشام: صدوق صالح كثير الأوهام (خاصة عن سفيان) لا يحتج به عن غير شريك. سعيد بن إياس الجريري: ثقة لكن اختلط في آخر عمره، ورواية سفيان عنه صحيحة.

و هذا الأثر الضعيف لا علاقة له بموضوعنا إذ ليس فيه إشارة للذكر فضلاً أن يكون جماعياً، و إنكار عمر بن الخطاب كان لدعائهم للأمير. و قد أفتى كثير من العلماء بأن الدعاء للأمير بدعة (و هو موضوع خلافي). قال الأمام الشاطبي (وهو من الأئمة المؤصلين في أبواب البدع) في كتابه الاعتصام (1|36): «سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين؟ فقال: "هو بدعة، و لا ينبغي العمل به، و أحسنه أن يدعو للمسلمين عامة". و نص أيضاً عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بـدعــة غير محبوبة». ثم قال الشاطبي: «و تارة أضيف إلى القول بجواز الخروج على الأئمة، و ما أضافوه إلا من عدم ذكرهم في الخطبة، و ذكرهم فيها محـدث لم يكن عليه ما تقدم».

2- الأثر المنسوب لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

و قد أخرجه الدارمي و إبن وضاح بأسانيد لا يخلو أحد منها من ضعف أو علة. و أحسنها هو ما أخرجه الدارمي برقم 206: أخبرنا ‏ ‏الحكم بن المبارك ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏عمرو بن يحيى ‏ ‏قال سمعت ‏ ‏أبي ‏ ‏يحدث عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏قال ‏‏كنا نجلس على باب ‏ ‏عبد الله بن مسعود ‏‏قبل صلاة ‏ ‏الغداة، ‏فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد. فجاءنا ‏ ‏أبو موسى الأشعري ‏ ‏فقال أخرج إليكم ‏ ‏أبو عبد الرحمن ‏ ‏بعد؟ قلنا لا. فجلس معنا حتى خرج. فلما خرج قمنا إليه جميعا، فقال له ‏ ‏أبو موسى ‏ ‏يا ‏ ‏أبا عبد الرحمن، ‏ ‏إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا. قال فما هو؟ فقال إن عشت فستراه قال رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل. وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مئة فيكبرون مئة فيقول هللوا مئة فيهللون مئة ويقول سبحوا مئة فيسبحون مئة. قال فماذا قلت لهم؟ قال ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا ‏ ‏أبا عبد الرحمن ‏حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد ‏ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم r ‏متوافرون ‏ ‏وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد ‏أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا والله يا ‏أبا عبد الرحمن ‏ما أردنا إلا الخير. قال وكم من مريد للخير لن يصيبه. إن رسول الله ‏r حدثنا ‏أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز ‏تراقيهم، ‏و أيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم ثم تولى عنهم. فقال ‏عمرو بن سلمة: ‏رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم ‏ ‏النهروان ‏مع ‏الخوارج.

و لا أدري كيف حشر هذا الحديث (بل هو أثر موقوف) في صنف أدلة عدم جواز الذكر الجماعي، إذ لا علاقة له بموضوعنا. فإنكار أبي موسى الأشعري لم يكن عن ذكرهم لربهم و لا أدري كيف اعتقدوا ذلك، إنما أنكر عدهم لحسناتهم لأنه خاف أن يغتروا بعملهم. انظر قوله: «أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم»، و كذلك قوله « فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء». بل هذا الحديث هو حجة عليهم لأن أبا موسى لم ينكر عليهم الذكر الجماعي إنما مجرد عده!

و هذا طبعاً لو صح سند الحديث. فما بالك لو علمت أن الحديث ضعيف أصلاً؟ قال الذهبي في الميزان (2|345) عن الحكم بن المبارك: «وثقه ابن حبان وابن منده (كلاهما متساهلان). وأما ابن عدي فإنه لوّح في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن الوهبي بأنه ممن يسرق الحديث، لكن ما أفرد له في الكامل ترجمة». قلت: سرقة الحديث يعني أن الراوي يبلغه حديث يرويه بعضهم فيسرقه منه و يركب عليه إسناداً من أسانيده، ثم يرفعه إلى النبي r. و هي تهمة معناها الاتهام بالكذب و وضع الحديث. أي أنها تهمة في غاية الخطورة. أما عن شيخه عمرو بن يحيى فقد قال ابن عدي (5|122): «عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة، حدثنا بن أبي عصمة ثنا أحمد بن أبي يحيى قال سمعت يحيى بن معين يقول: "عمرو بن يحيى بن سلمة ليس بشيء". حدثنا أحمد بن علي ثنا الليث بن عبدة قال سمعت يحيى بن معين يقول: "عمرو بن يحيى بن سلمة، سمعت منه، لم يكن يرضي". وعمرو هذا ليس له كثير رواية ولم يحضرني له شيء فأذكره». ونقل ابن حجر في لسان الميزان (4\378) عن ابن خراش قوله عنه: «ليس بمرضي». .وقد روى إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال «عمرو بن يحيى بن سلمة ثقة». ولعله يقصد العدالة فقط، لأن ابن عدي ينقل من سندين مختلفين تضعيف إبن معين له، و كذلك إبن حجر العسقلاني ينقل تضعيف إبن خراش له. فإذا ثبت عندنا وجود ضعيفين في سند الحديث، فلا شك في ضعف الحديث.

3- الأثر المنسوب لخباب بن الأرت رضي الله عنه. و أصح سند له هو ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5\290): حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن عبد الله بن خباب قال: رآني أبي وأنا ثم قاص فلما رجع أخذ الهراوة قال قرن قد طالع العمالقة.

و هذا الأثر يفيد في النهي عن القص على الناس. و قد ذكر إبن شيبة ذلك الأثر في باب كراهية القصص على الناس، و ذكر في ذلك أثار كثيرة عن الصحابة رضوان الله عليهم. و ليس في هذا الأثر و لا حتى في رواية ابن وضاح ما يثبت أن الكلام عن الذكر الجماعي بصوت واحد. و إلا لأمكننا الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة الواردة في الثناء على أهل الذكر بصيغة الجمع بما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال : «إن لله تعالى ملائكة سيارة، فضلاً يتبعون مجالس الذكر. فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر، قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم و بين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا، وصعدوا إلى السماء. قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، يسبحونك، ويكبرونك، و يهللونك، ويحمدونك، ويسألونك ...»، وفي نهاية الحديث يقول الله : «... قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا».

فهذا الحديث الصحيح يدل على فضل الاجتماع للذكر، والجهر به من أهل الذكر جميعاً، لأنه قال : «يذكرونك ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويمجدونك» بصيغة الجمع. و هذا ما فهمه شرّاح هذا الحديث كابن تيمية في الفتاوى الكبرى، و الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، و الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري حيث قال : «المراد بمجالس الذكر هي المجالس التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرها، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة. وفي دخول الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي و مذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس: نظر. و الأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوها والتلاوة فحسب، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسته، والمناظرة فيه، من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى».

و هم يرفضون الاحتجاج بهذا الحديث بحجة أنه لا يذكر بصراحة ترديد الذكر بصوت واحد، فكيف يحتجون بالآثار أعلاه و الإشارة فيها لذلك أقل، و أسانيدها أضعف بكثير؟!

أما عن كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان. فهذا نوافقه عليه و هو ليس من هذه المسألة. إذ أن الإمام مالك كره أن يفعل الناس فعلاً لم يكن عند السلف، كالدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية. و لكنه نفسه أجاز الذكر الجماعي (أي تكبير الناس بتكبير الإمام) في أيام العيد. إذ ذكر أثراً صحيحاً في الموطأ عن قيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتكبير الجماعي. و قد أخذ الإمام مالك بهذا الحديث لأنه وافق عمل أهل المدينة في الذكر الجماعي. و قد تبعه في ذلك فقهاء المالكية المتقدمين منهم و المتأخرين.

فمن خص وقتاً معيناً بذكر معينٍ دون دليل من كتاب أو سنة، فهذا بدعة، و إلا فلا. لذلك قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتِمْتَاعِ كِتَابِهِ وَالدُّعَاءُ عَمَلٌ صَالِحٌ , وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ , فَفِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ , فَإِذَا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ : { وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك } . لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ , فَلَا يُجْعَلُ سُنَّةً رَاتِبَةً يُحَافِظُ عَلَيْهَا إلَّا مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَمِنْ الْجُمُعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا , فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ , فُعِلَ كَذَلِكَ , وَمَا سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِنْ الْأَوْرَادِ عُمِلَ كَذَلِكَ.

أدلة رفع الصوت بالتكبير

قال الإمام النووي في المجموع: «يستحب رفع الصوت بالتكبير بلا خلاف». قلت الدلالة التي أذكرها هنا هو أن الجهر أمر لا خلاف عليه بالنسبة للرجال. فلو ثبت ذلك وقلنا لواحد: كبر داخل المسجد حيث يوجد آخرون يجهرون بالتكبير فلا يعقل أن يكبر الإنسان وحده إلا إن تعمد المخالفة. أما لو ترك نفسه على سجيته لكبر مع الآخرين تلقائيا. يعرف ذلك كل منصف لا يتشنج لرأيه الخاص أو رأي تبناه بدون بصيرة ولا تفكر.

و قد نقل الشافعي في الأم (1|231): أن ابن المسيب وعروة بن الزبير وأبا سلمة وأبا بكر بن عبد الرحمن ونافع بن جبير و ابن عمر يجهرون بالتكبير. وكان فقيه الصحابة ابن عمر يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى. و قال الإمام الشافعي أيضاً: «فإذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة و فرادى في المسجد والأسواق والطرق والمنازل ومسافرين ومقيمين في كل حال وأين كانوا. وأن يظهروا التكبير».

أدلة الذكر الجماعي

و في صحيح البخاري: «باب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِد». و هذا تعليق بصيغة الجزم و قد وصله ابن حجر من عدة طرق منها حديث أخرجه البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو بكر بن إسحاق قال قال أبو عبيد فحدثني يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر رضي الله عنه: ثم كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون فيسمعه أهل السوق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيرا واحدا. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا. سنن البيهقي الكبرى (3|312). و رجال الحديث ثقات أثبات، وابن جريج أوثق الناس عن عطاء خاصة ما رواه عنه يحيى فإنه متصل خالٍ من التدليس.

قال إمام المحدثين ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (2|461): «وقوله "ترتج" بتثقيل الجيم أي تضطرب وتتحرك، وهي مبالغة في اجتماع رفع الأصوات». وهذا أيضا الشوكاني يكرر نفس المقالة في نيل الأوطار (3|388). وهذا دليل واضح على صحة التكبير الجماعي. ولا أدري لماذا العناد في رفضه والإصرار على إنكار الاستدلال به على التكبير الجماعي. وقل لي بربك كيف يرتج المسجد بدون أن يكون هناك اجتماع للصوت؟ أما لو كبر كل واحد لوحده لصار كالمزاد ولا ارتجاج البتة. ألا ترى قوله تكبيراً واحداً؟ هل يمكن أن يكون هناك نص أصرح من هذا؟!

أخرج البخاري في صحيحه: «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَه». و أخرج مسلم في صحيحه: «عَنْ أُمّ عَطِيّةَ، قَالَتْ: كُنّا نُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ فِي الْعِيدَيْنِ. وَالْمُخَبّأةُ وَالْبِكْرُ. قَالَتِ: الْحُيّضُ يَخْرُجْنَ فَيَكُنّ خَلْفَ النّاسِ. يُكَبّرْنَ مَعَ النّاسِ». وهنا تصريح بأنهن يقتدين بتكبير الرجال الجماعي ولا مجال أن يقتدين بالتكبير لو كان كل واحد من الرجال يكبر عاليا وحده بل هن يقتدين بمجموع تكبير الرجال.

رأي كبار الأئمة الأعلام

جاء في موطأ مالك (1|404): «حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد انه بلغه أن عمر بن الخطاب ثم خرج الغد من يوم النحر حين ارتفع النهار شيئا فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر، فكبر الناس بتكبيره. ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر، فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيعلم أن عمر قد خرج يرمي. قال مالك الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الظهر من يوم النحر وآخر ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ثم يقطع التكبير. قال مالك والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب وإنما يأتم الناس في ذلك بإمام الحاج وبالناس بمنى لأنهم إذا رجعوا وانقضى الإحرام ائتموا بهم حتى يكونوا مثلهم في الحل فأما من لم يكن حاجا فإنه لا يأتم بهم إلا في تكبير أيام التشريق قال مالك الأيام المعدودات أيام التشريق».

و قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأمر عندنا، أي هذا هو مذهب أهل المدينة، و بالتالي مذهب المالكية كلهم. لأنه كان عادة -رضي الله عنه- لا يعمل يعمل بحديث في موطأه حتى يوافق عمل أهل المدينة في عصره فيطمئن له. و في حاشية الصاوي قوله: «و أما التكبير جماعة و هم جالسون في المصلى فهذا هو الذي استحسن. قال ابن ناجي افترق الناس بالقيروان فرقتين بمحضر أبي عمرو الفارسي وأبي بكر بن عبد الرحمن، فإذا فرغت إحداهما من التكبير كبرت الأخرى فسئلا عن ذلك؟ فقالا: إنه لحسن. و عليه فقهاء المالكية».

و في المغني لابن قدامة الحنبلي (2|127): «فصل و المسافرون كالمقيمين فيما ذكرنا وكذلك النساء يكبرن في الجماعة وفي تكبيرهن في الانفراد روايتان كالرجال قال ابن منصور قلت لأحمد قال سفيان لا يكبر النساء أيام التشريق إلا في جماعة قال أحسن وقال البخاري كان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد وينبغي لهن أن يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال وعن أحمد رواية أخرى».

و قال الإمام الشافعي في الأم (1|231): «يكبر الناس في الفطر حين تغيب الشمس ليلة الفطر فرادى و جماعة في كل حال حتى يخرج الإمام لصلاة العيد ثم يقطعون التكبير». ثم قال «ويكبر إمامهم خلف الصلوات فيكبرون معا ومتفرقين، ليلا ونهارا وفي كل هذه الأحوال». ثم قال: «ويكبر الإمام خلف الصلوات ما لم يقم من مجلسه فإذا قام من مجلسه لم يكن عليه أن يعود إلى مجلسه فيكبر وأحب أن يكبر ماشيا كما هو أو في مجلس إن صار مجلسه. قال: ولا يدَعْ من خلْـفه التكبيرَ بتكبيره!!». قلت هذا فهم مجدد القرن الثاني كما نص الإمام أحمد. فهل ستقولون عنه مبتدع؟

و قد أجاز أئمة الأحناف أيضاً الذكر الجماعي كما تجده في البحر الرائق و درر الأحكام و حاشية ابن عابدين و مبسوط أبي الليث و الظهرية و في المجتبى و في غيرها من الكتب. فهذه أقوال كبار أئمة المذاهب الأربعة عند أهل السنة و الجماعة يجيزون الذكر الجماعي.

صيغ التكبير الجماعي

و لعل أحدهم يقول بعد أن يقرأ كل هذه الأدلة الناصعة بأن التكبير الجماعي سنة ثم يستثنيه من الذكر الجماعي. و هذا لا شك أنه باطل، إذ لا يقصد بالتكبير الجماعي مجرد ترديد كلمة «الله أكبر» إنما قد جاء في صيغ كثيرة منها ما قاله الإمام النووي في المجموع: «فرع في مذاهبهم في صفة التكبير: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أن يكبر ثلاثا نسقا : الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وبه قال مالك. وحكى ابن المنذر عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنه : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، قال : وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأحمد وإسحاق».

و قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الأم (1\231): «والتكبير كما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الله أكبر فيبدأ الإمام فيقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر حتى يقولها ثلاثا وإن زاد تكبيرا فحسن وإن زاد فقال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا الله أكبر ولا نعبد إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر فحسن وما زاد مع هذا من ذكر الله أني أحب أن يبدأ بثلاث تكبيرا نسقا وإن اقتصر على واحدة أجزأته وإن بدأ بشيء من الذكر قبل التكبير أو لم يأت بالتكبير فلا كفارة عليه». فكل هذا داخل تحت التكبير الجماعي. أما دعوى التخصيص فتحتاج لدليل، و من أين لهم هذا؟

شيخ الإسلام و مجالس الذكر

هذا ما جاء في كتاب الفتاوى الكبرى لشيخنا شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عن مجالس الذكر الجماعي:

‏كتاب الذكر والدعاء . مسألة رجل ينكر على من يجهر بالذكر. 318 - 6 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ يُنْكِرُ عَلَى أَهْلِ الذِّكْرِ , يَقُولُ لَهُمْ : هَذَا الذِّكْرُ بِدْعَةٌ وَجَهْرُكُمْ فِي الذِّكْرِ بِدْعَةٌ , وَهُمْ يَفْتَتِحُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَخْتَتِمُونَ , ثُمَّ يَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ , وَيَجْمَعُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَالْحَوْقَلَةَ , وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ r وَالْمُنْكِرُ يَعْمَلُ السَّمَاعَ مَرَّاتٍ بِالتَّصْفِيقِ وَيَبْطُلُ الذِّكْرُ فِي وَقْتِ عَمَلِ السَّمَاعِ .

الْجَوَابُ : الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتِمْتَاعِ كِتَابِهِ وَالدُّعَاءُ عَمَلٌ صَالِحٌ , وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ , فَفِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ , فَإِذَا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ : { وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك } . لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ , فَلَا يُجْعَلُ سُنَّةً رَاتِبَةً يُحَافِظُ عَلَيْهَا إلَّا مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ r الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَمِنْ الْجُمُعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ r وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا , فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ , فُعِلَ كَذَلِكَ , وَمَا < 385 > سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِنْ الْأَوْرَادِ عُمِلَ كَذَلِكَ , كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا يَأْمُرُونَ أَحَدَهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ , وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا , فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ , وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَقُولُ : " اجْلِسُوا بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً " { وَصَلَّى النَّبِيُّ r بِأَصْحَابِهِ التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ } , { وَخَرَجَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ قَارِئٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ يَسْتَمِعُ } .

وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ السَّمَاعِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجَلِ الْقَلْبِ , وَدَمْعِ الْعَيْنِ , وَاقْشِعْرَارِ الْجُسُومِ , فَهَذَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ وَالْغَشْيُ وَالْمَوْتُ وَالصَّيْحَاتُ , فَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُلَمْ عَلَيْهِ , كَمَا قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , فَإِنَّ مَنْشَأَهُ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَعَ ضَعْفِ الْقَلْبِ , وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ r وَالصَّحَابَةِ . وَأَمَّا السُّكُونُ قَسْوَةٌ وَجَفَاءٌ فَهَذَا مَذْمُومٌ لَا خَيْرَ فِيهِ .

وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ السَّمَاعِ فَالْمَشْرُوعُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ وَيَكُونُ وَسِيلَتَهَا إلَى رَبِّهَا بِصِلَةِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا هُوَ سَمَاعُ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ سَمَاعُ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ r { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } وَقَالَ : { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَهُوَ السَّمَاعُ الْمَمْدُوحُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , لَكِنْ لَمَّا نَسِيَ بَعْضُ الْأُمَّةِ حَظًّا مِنْ هَذَا السَّمَاعِ الَّذِي ذُكِّرُوا بِهِ أُلْقِيَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ , فَأَحْدَثَ قَوْمٌ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالتَّصْفِيقِ وَالْغِنَاءِ مُضَاهَاةً لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْمُشَابَهَةِ لِمَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى , وَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ , وَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مُضَاهَاةً لِمَا عَابَهُ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ . وَالدِّينُ الْوَسَطُ هُوَ مَا عَلَيْهِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

السبحة ليست بدعة

المسبحة أو السبحة كما تسمى هي عقد من الخرز يستعمل في عد مرات الذكر. و قد أفتى بجوازه الكثير من العلماء كالإمام ابن تيمية و الشوكاني، إن لم يكن يحملها المرء رياء الناس كما يفعل بعض الصوفية. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في مجموع الفتاوى (22|506): «وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي للنساء سبحن واعقدن بالأصابع فإنهن مسئولات مستنطقات، وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن. وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك. وقد رأى النبي أم المؤمنين تسبح بالحصى واقرها على ذلك. وروي أن أبا هريرة كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه ومنهم من لم يكرهه. وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه. وأما اتخاذه من غير حاجة أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق أو جعله كالسوار في اليد أو نحو ذلك، فهذا إما رياء للناس أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة. الأول محرم والثاني أقل أحواله الكراهة، فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب».

وجاء في "مسائل الإمام أحمد وإسحاق، رواية الكوسج" (2|601 #3507): «قلت (للإمام أحمد بن حنبل): يُسبِّح الرجل بالنوى؟ قال: قد فعل ذلك أبو هريرة و سعد رضي الله عنهما، وما بأس بذلك، النبي r عدَّ. قال إسحاق (بن راهوية): كما قال». ومعظم مشايخ الجزيرة مؤيدين لأنها ليست بدعة منهم ابن باز و ابن عثيمين واللجنة الدائمة (7|111). و إن لم تعجبك يا أخي وكنت من مقلدة الألباني، فهل يجوز أن تتهم من يستعمل المسبحة بأنه مبتدع؟ و هل يصبح ابن تيمية من المبتدعة؟ ألا يصح أن نقول أنها من الأمور الخلافية بين العلماء؟

خاتمة

فهذه الأدلة مختصرة لكن فيها غنية لمن ألقى السمع و هو شهيد. و قد تخالفني أخي المسلم في نقطة أو اثنتين لكن يستبعد ألا تنصفني و المسلمين من صحة بقية الأدلة التي ذكرتها. فإن كبرت عليك نفسك أن ترضخ للحق فلا أقل من أن تلزم الصمت و لا تنكر على المسلمين طاعة جليلة كهذه، مقتديا بالحجّاج بن يوسف الثقفي في منع الناس من التكبير، و مدخلا السعادة في قلوب أعداء الإسلام الذين يحسدوننا على هذه النعمة العظيمة. سبحانك ربي لا إله إلا أنت. أستغفرك و أتوب إليك. و صلى الله و سلم على نبينا المصطفى محمد.