منهج ابن حبان

قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1|441): «ابنُ حِبّان ربما جَرَح الثقة حتى كأنه لا يَدري ما يَخرج من رأسه!». وقال الذهبي في ترجمة "محمد بن الفضل السَّدُوسي عارم" في الميزان (6|298): «وقال الدارقطني: "تغير بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديثٌ مُنكَرٌ، وهو ثقة". قلت (أي الذهبي): فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النَّسائي مثله. فأين هذا القول من قول ابن حبان الخَسَّاف المتهوِّر في عارم؟! فقال: "اختَلَط في آخر عمره وتغيّر، حتى كان لا يدري ما يُحدّثُ به. فوقع في حديثه المناكير الكثيرة. فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون. فإذا لم يُعلَم هذا من هذا، تُرِكَ الكل ولا يُحتجّ بشيءٍ منها". قلتُ (أي الذهبي): ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً. فأين ما زعم؟!». وقال كذلك في السير (10|267): «فانظر قول أمير المؤمنين في الحديث أبي الحسن (الدارقطني). فأين هذا من قول ذاك الخَسَّاف المتفاصِح أبي حاتم ابن حبان في عارم؟!». أقول: وهذا يظهر بوضوح أن ابن حبان يطلق الأقوال بغير تحقيق ولا تدقيق، حيث أساء فهم أقوال كبار أئمة الجرح والتعديل، فجاء بهذا الحُكم المتعسّف. بعكس الدارقطني الذي حقّق واستقرئ. وشتان بين الاثنين.

وقال الذهبي في الميزان (1|460): «ابن حبان صاحب تشنيع وشغب»، مشيراً إلى عدم الاعتداد ببعض ما ينقله. وقال أبو عمرو بن الصلاح في طبقات الشافعية : «غلط ابن حبان الغلط الفاحش في تصرفاته».

وقال الذهبي في الميزان: «وقد بدت من ابن حبان هفوة فطعنوا فيه بها. قال أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام: سألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان فقال: نحن أخرجناه من سجستان. كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين. قدم علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه». وهذا إضافة لموقف ابن حبان من التبرك بالقبور، إنما يدل على أن عقيدته لم تكن سلفية خالصة.

 و ابن حبّان قد يذكر الرجل في كتابه "الثّقات" مع أنه لا يعرفه. وقد ظن بعض العلماء أن هذا توثيق له، وهو خطأ فادح. فقد يذكر رجلاً في كتابه الثقات ثم يجرحه في كتابه المجروحين. وإنما قصد العدالة وحدها التي هي الأصل في المسلمين. والعدالة وحدها تكفي عنده -بخلاف الجمهور- في الاحتجاج بالراوي دون الضبط، وذلك يخرج حديث المجاهيل في صحيحه. وظن البعض أن هذا يرفع جهالة العين وتبقى جهالة الحال. وهذا أيضاً خطأ. فقد يذكر الرجل ويصرح بأنه لا يعرف عنه شيء. وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه بقوله: «فمن لم يعلم يجرح فهو عدل، إذا لم يبين ضده. إذ لم يُكلّف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم»، أي كل رجل لم يعرف فيه جرحاً (واعتماده الأساسي على تاريخ البخاري الكبير الذي قلّما يذكر الجرح) فهو ثقة عنده! قال ابن حجر في مقدمة "لسان الميزان" (1|208 تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة): «وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان، من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه، كان على العدالة إلى أن يتبين جَرحُه، مذهبٌ عجيب، والجمهور على خلافه». وإليك بعض الأمثلة من الرّجال الذين أوردهم ابن حبّان في (الثقات) مع تصريحه بعدم معرفته لهم، بما في ذلك من وصفهم بـ "شيخ":

  1. أبان: شيخٌ يروي عن أُبي بن كعب، روى عنه محمد بن جحادة، لا أدري مَن هو ولا ابن من هو.

  2. إبراهيم بن إسحاق: شيخٌ يروي عن ابن جريج، روى عنه وكيع بن الجراح، لست أعرفه ولا أباه.

  3. أحمد بن عبد الله الهمداني: يروى عن يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي عن أيمن بن خريم بن فاتك قال أبي وعمي شهدا بدراً. روى عنه الحضرمي إن لم يكن بن أبي السفر فلا أدري من هو.

  4. أسير بن جابر العبدي الكوفي: يروي عن عمرو بن مسعود. روى عنه البصريون قتادة وأبو عمران الجوني وأبو نضرة. في القلب من روايته من أويس القرني. إلا أنه حكى ما حكى عن إنسان مجهول. لا يدرى من هو والقلب أنه ثقة أميل.

  5. أمية القرشي: شيخ يروى عن مكحول. لست أدري من هو. روى عنه ابن المبارك.

  6. أيوب الأنصاري: يروي عن سعيد بن جبير. روى عنه مهدي بن ميمون. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  7. بكير أبو عبد الله: يروي عن سعيد بن جبير. روى عنه أشعث بن سوار. إن لم يكن الضخم فلا أدري من هو.

  8. جميل: شيخ يروى عن أبى المليح بن أسامة روى عنه عبد الله بن عون لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  9. حاجب: يروي عن جابر بن زيد، لا أدري من هو ولا ابن من هو، روى عنه الأسود بن شيبان.

  10. حِبّان: يروي عن أبيه عن علي، لست أعرفه ولا أباه.

  11. حبيب الأعور: يروي عن عروة بن الزبير. روى عنه الزهري. إن لم يكن ابن هند بن أسماء فلا أدري من هو.

  12. حبيب بن سالم: يروي عن أبي هريرة، روى عنه محمد بن سعيد الأنصاري، إن لم يكن مولى النّعمان بن بشير، فلا أدري من هو.

  13. الحسن أبو عبد الله: شيخ يروي المراسيل. روى عنه أيوب بن النجار. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  14. الحسن القردوسي: يروي عن الحسن. روى عنه عكرمة بن عمار. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  15. الحسن الكوفي: شيخ يروي عن ابن عباس. روى عنه ليث بن أبي سليم. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  16. الحسن بن مسلم الهذلي: يروي عن مكحول. روى عنه شعبة. إن لم يكن ابن عمران فلا أدري من هو.

  17. حماد أبو يحيى: يروي عن الحسن وابن سيرين. عداده في أهل البصرة. روى عنه التبوذكي والربيع بن صبيح. لا أدري من هو.

  18. حنظلة: شيخ يروي المراسيل. لا أدري من هو.

  19. راشد: شيخ يروي عن سليك الفزاري. روى عنه سفيان الثوري. إن لم يكن الأول فلا أدري من هو.

  20. رباح: شيخٌ يروي عن ابن المبارك، عِداده في أهل الكوفة، روى عنه إبراهيم بن موسى الفرّاء، لست أعرفه ولا أباه.

  21. رباح: شيخٌ يروي عن أبي عبيدالله عن مجاهد، روى عنه سفيان الثوري، لست أعرفه ولا أدري من أبوه.

  22. رمى: شيخ يروي عن القاسم بن محمد. روى عنه سليمان التيمي. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  23. الزبرقان: شيخ يروي عن النواس بن سمعان. روى داود بن أبى هند عن شهر بن حوشب عنه. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  24. زياد: شيخٌ يروي عن زر عن ابن مسعود، روى عنه إسماعيل السدّي، ولا أدري من هو.

  25. سبرة: شيخ يروي عن أنس. روى عنه السدي. لا أدري من هو.

  26. سعيد بن أبي راشد: يروى عن عطاء عن أبى هريرة في المسح على الخفين. روى عنه مروان بن معاوية. إن لم يكن سعيد بن السماك فلا أدري من هو. فان كان ذاك فهو ضعيف.

  27. سلام: شيخ يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن أبى عروبة. وإن لم يكن سلام بن تميم فلا أدري من هو.

  28. سلمة: يروي عن بن عمر. روى عنه ابنه سعيد بن سلمة. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  29. سليم بن عثمان أبو عثمان الطائي: يروي عن جماعة من أهل الشام، روى عنه سليمان بن سلمة الخبائري الأعاجيبَ الكثيرةَ، ولست أعرفه بعدالة ولا جرح.

  30. سميع: شيخ يروي عن أبي أمامة. روى عنه عمرو بن دينار المكي. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  31. سهل: شيخٌ يروي عن شدّاد بن الهادي، روى عنه أبو يعفور، ولست أعرفه ولا أدري من أبوه.

  32. سهيل بن عمرو: شيخ يروي عن أبيه. روى عنه همام بن يحيى. لا أدري من هو ولا من أبوه.

  33. شعبة: شيخٌ يروي عن كريب بن أبرهة، روى عنه سليط بن شعبة الشعباني، لست أعرفه ولا أباه.

  34. شهاب: شيخ يروي عن أبى هريرة. روت عنه القلوص بنت علية. لا أدري من هو.

  35. شيبة: شيخ يروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. روى عنه بن جريج. إن لم يكن بن نصاح فلا أدري من هو.

  36. صيفي: شيخ يروي عن أبي اليسر كعب بن عمرو. روى عنه عبد الله بن سعيد بن أبى هند. إن لم يكن الأول فلا أدري من هو ولا ابن من هو.

  37. عباد بن الربيع: إمام بجيلة كوفي يروي عن علي. روى هشيم عن أبي محمد عنه. إن لم يكن أبو محمد هو الأعمش فلا أدري من هو.

  38. عبّاد القرشي: يروي عن عائشة، روى عنه عقبة بن أبي ثبيت. إن لم يكن عباد بن عبد الله بن الزبير فلا أدري من هو.

  39. عبد السلام: يروي عن أبي داود الثقفي عن ابن عمر، روى عنه سعيد بن بشير، إن لم يكن ابن سليم فلا أدري من هو.

  40. عبد العظيم بن حبيب شيخ يروى عن بهز بن حكيم روى عنه سليمان بن مسلمة الخبائري إن لم يكن الأول فلا أدري من هو.

  41. عبد الكريم: شيخ يروى عن أنس بن مالك. روى الليث بن سعد عن إسحاق بن أسيد عنه. لا أدري من هو ولا بن من هو.

  42. عزرة: شيخ يروى عن الربيع بن خثيم. عداده في أهل الكوفة. روى عنه أبو طعمة. إن لم يكن بعزرة بن دينار الأعور فلا أدري من هو.

  43. عطاء المدني: يروي عن أبي هريرة في صلاة الجمع، روى عنه منصور، لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  44. عقبة الرفاعي يروى عن عبد الله بن الزبير روى عنه ابنه محمد بن عقبة إن لم يكن بن أبى عتاب فلا أدري من هو

  45. عكرمة: شيخٌ يروي عن الأعرج، لست أعرفه ولا أدري من أبوه، روى عنه إبراهيم بن سعد.

  46. عمارة: شيخ من بني حارث بن كعب، يروي عن ابن عباس، روى عنه ابنه عبد الله، إن لم يكن ابن خزيمة بن ثابت فلا أدري من هو.

  47. عمر الدمشقي: شيخٌ يروي عن أم الدرداء الصغرى، روى عنه سعيد بن أبي هلال، لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  48. عيسى الأنصاري: يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، روى عنه زيد بن أبي أنيسة، لست أدري من هو ولا ابن من هو.

  49. فزع: شهد القادسية. يروي عن المقنع. وقد قيل إن للمقنع صُحبة. ولست أعرف فزعاً ولا مقنعاً، ولا أعرف بلدهما، ولا أعرف لهما أباً. وإنما ذكرتهما للمعرفة لا للاعتماد على ما يرويانه.

  50. فُضيل: شيخٌ يروي عن سالم بن عبد الله، إن لم يكن بن أبى عبد الله صاحب القاسم بن محمد فلا أدري من هو.

  51. فُضيل: شيخٌ يروي عن معاوية، روى عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عنه، إن لم يكن الهوزني فلا أدري من هو.

  52. النضر: شيخ يروى عن عطاء بن يسار روى عنه الدراوردي. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  53. مالك: شيخ يروى عن سلمان. روى عنه أبو إسحاق السبيعي. إن لم يكن مالك بن مالك فلا أدري من هو.

  54. متوكل: شيخ يروى عن أبى هريرة. روى عنه خالد بن معدان. لا أدري من هو.

  55. محمد أبو عبد الله الأسدي: لا أدري من هو، يروي عن وابصة بن معبد، روى عنه معاوية بن صالح.

  56. محمد الزهري الكوفي: قوله روى عنه بن عون. إن لم يكن محمد بن محمد بن الأسود فلا أدري من هو.

  57. محمد بن أفلح: يروي عن أبي هريرة، روى عنه يعلى بن عطاء وحميد الطويل، إن لم يكن الأول فلا أدري من هو.

  58. محمد بن سعيد: شيخ يروى عن عمر بن الخطاب. روى عنه قتادة. لا أدري من هو.

  59. محمد مولى بنى هاشم: قال رأيت ابن عمر وابن عباس يمشيان بين يدي الجنازة. روى عنه قتادة. لا أدري من هو.

  60. مروان: شيخ يروي عن بن مسعود. روى عنه عمران بن أبى يحيى. لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  61. مضارب العجلي: من بكر بن وائل يروي المراسيل. روى عنه قتادة. إن لم يكن مضارب بن حزن فلا أدري من هو.

  62. مقاتل: شيخٌ يروي عن أنس بن مالك، روى عنه سعيد بن أبي عروبة، لا أدري من هو.

  63. مهاجر: شيخٌ يروي عن عمر، روى عنه محمد بن سيرين، لا أدري من هو ولا ابن من هو.

  64. نبتل: شيخٌ يروي عن أبي هريرة، روى عنه يعقوب بن محمد بن طحلاء، لا أدري أبو حازم هو أو غيره.

  65. وقّاص: شيخٌ يروي عن أبي موسى الأشعري، رَوَتْ عنه ابنته منيعة، لا أدري من هو.

  66. الوليد: شيخٌ يروي عن عثمان بن عفان. روى عنه بكير بن عبد الله بن الأشج. لا أدري من هو.

  67. يعقوب بن غضبان: شيخ يروى عن بن مسعود. روى عنه شيخ يقال له ضرار. لا أدري من هو.

فالصواب أن من ذكره ابن حبان في كتابه الثقات وصرح بعدم معرفته له، فليس مراده في ذلك تعديله أو قبول روايته، بل مقصده هو من أجل معرفة من كانت له رواية فحسب، لا من أجل الاعتماد عليه فيما يرويه. والدليل على ذلك ما ذكره ابن حبان نفسه في كتاب "الثقات" (7/326) في ترجمة الفزع: «شهد القادسية، يروي عن المقنع، وقد قيل: إن للمقنع صحبة، ولست أعرف فزعاً، ولا مقنعاً، ولا أعرف بلدهما، ولا أعرف لهما أباً، وإنما ذكرتهما للمعرفة لا للاعتماد على ما يرويانه». فعُلِمَ من ذلك أن إيراد ابن حبان للمقنع، وللفزع، ولمن كان على شاكلتهما لا يريد بذلك التعديل، أو الاعتماد على مروياتهم؛ بل مجرد المعرفة بهم فحسب.

وهذه الفائدة قد ذكرها الشيخ الألباني في مقدمته لصحيح موارد الظمآن (1|19)، وعلق عليها: «وهذا نصٌّ هامٌّ جداً جداً، وشهادة منه –لا أقوى منها– على أن كتابه الثقات ليس خاصاً بهم، وإنما هو لمعرفتهم، ومعرفة غيرهم من المجهولين والضعفاء، ونحوهم. غير أن هذا النص زاد عليه أنه أعلمنا أنه يذكر هؤلاء للمعرفة، لا على أنهم من الثقات الذين يحتج بخبرهم عنده».

قال أسعد سالم تيم في "علم طبقات المحدثين" (ص160): «كتاب الثقات نفسه يكاد يكون مُنتَزَعاً من "التاريخ الكبير". فقد قارنت مئات التراجم في الكتابين، فوجدت ابن حبان ينقل كلام البخاري بنصه أو باختصار، وقَلّما يأتي بشيءٍ جديدٍ من عنده في تراجم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. إلا أن تراجم الطبقة الرابعة (في المجلدين الثامن والتاسع) من تأليفه. وهذان المجلدان من أثمن ما في الكتاب وأكثره فائدة، وفيهما تتجلى عبقرية ابن حبان. أما مبحث السيرة والتاريخ الإسلامي اللذين شغلا المجلدين الأوليين، فلا فائدة فيهما بالمرة! إذ اختصر ابن حبان الأسانيد، وخلط الغث بالسمين بالصحيح بالمنكر. وشتان ما بين ما كتبه ابن سعد في مقدمة كتابه، وبين ما كتبه أبو حاتم إمام الأئمة!». وهو ما أقر به بشكل غير مباشر، فقال في مقدمة الثقات (ص11): «وأقنع بهذين الكتابين المختصرين عن كتاب "التاريخ الكبير" الذي خرجنا، لعلمنا بصعوبة حفظ كل ما فيه من الأسانيد والطرق والحكايات، ولأن ما نمليه في هذين الكتابين (أي الثقات والمجروحين) -إن يسر الله ذلك وسهله- من توصيف الأسماء بقصد ما يحتاج إليه، يكون أسهل على المتعلم إذا قصد الحفظ...».

قال ابن عبد الهادي: «وقد وقع له مثل هذا التناقض والوهم في مواضع كثيرة. وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه. ولو أخذنا في ذكر ما أخطأ فيه وتناقض، من ذكره الرجل الواحد في طبقتين متوهماً كونه رجلين، وجمعه بين ذكر الرجل في الكتابين كتاب الثقات وكتاب المجروحين، ونحو ذلك من الوهم والإيهام، لطال الخِطاب». انظر كتابه "الصارم المنكي" ص (103-105). وقال: «وينبغي أن ينتبه لهذا، ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق». وقال: «وطريقة ابن حبان في هذا (أي تعديل المجاهيل) قد عُرِفَ ضعفها. مع أنه قد ذكر في كتاب الثقات خلقاً كثيراً، ثم أعاد ذكرهم في المجروحين وبَيَّن ضعفهم. وذلك من تناقضه وغفلته، أو من تغير اجتهاده». قلت أيما كان السبب فهو دليلٌ على ضعف توثيقه. ولقد حاول الدكتور مبارك الهاجري أن يجمع الرواة الذين ذكرهم ابن حبان في المجروحين وأعادهم في الثقات فكان مجموعهم (159) راوياً. واستدرك عليه بعض الباحثين في موقع ملتقى أهل الحديث (25) راوياً. فيكون ابن حبان قد حكم على نفسه بالتناقض في (184) راوياً على الأقل. 

قال الألباني في صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (1|25): «وبهذا التحقيق، والتَّتَبُّعِ لهذه الأمثلة في كتاب "الثقات"، وما قاله مؤلفه فيها وفي غيرها؛ يتجلى لكل ذي بصيرة أن ما رماه الحفاظ العارفون به من التساهل في التوثيق، ومخالفة الجمهور، وأن له فيه الأوهام الكثيرة؛ كل ذلك حق لا ريب فيه؛ بل إنه أخل أيضًا بالقاعدة التي وضعها في مقدمته كما سبق: "العدل من لم يعرف بجرح"!! فأورد فيه جمهورًا كبيرًا ممن جرحهم هو نفسه فضلًا عن غيره، مما أغنانا هو عن الاستشهاد بأقوالهم فيهم». وانظر أيضا لكلامه في سلسلة الأحاديث الضعيفة (14|478) عن بشر بن حيان.

وممن انتقد ابن حبان أيضاً -غير ابن عبد الهادي-: ابن الصلاح وابن تيمية والذهبي وابن حجر وابن رجب وكثير غيرهم. بل جعله السخاوي قريباً من مرتبة الحاكم الذي هو مضرب المثل في التساهل البالغ. قال السخاوي في "فتح المغيث" (1|35): «وابن حبان يداني الحاكم في التساهل. وذلك يقتضي النظر في أحاديثه أيضاً. لأنه غير متقيد بالمعدَّلين، بل ربما يخرج للمجهولين، ولا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح». ولذلك يئس البعض من الاستفادة من توثيق ابن حبان. فيقول عداب الحمش في "رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل" (ص72): «والفصل في الرواة الذين سكت عليهم ابن حبان، هو عرضهم على كتب النقد الأخرى. فإن وجدنا فيها كلاماً، أخذنا بما نراه صواباً مما قاله أصحاب كتب النقد. وإن لم نجد فيها كلاماً شافياً، طبقنا قواعد النقاد عليهم، وقواعد ابن حبان نفسه».

وقد حاول المعلمي في التنكيل الدفاع عن توثيق ابن حبان رداً على الكوثري (مع أنه لم يعتد به في المواضع الأخرى)، فقال: «التحقيق أن توثيقه على درجات: الأولى: أن يصرح به كأن يقول "كان متقنا" أو "مستقيم الحديث" أو نحو ذلك. الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم. الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة. الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذاك الرجل معرفة جيدة. الخامسة: ما دون ذلك.
فلأولى لا تقلّ عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم (!) والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل».
وكلام المعلمي نظري بحت، وقليل الفائدة من حيث التطبيق. فالمرتبة الأولى نسبة عدد رواتها (أقل من 300) إلى عدد كل الرواة (16,500) تقارب الصفر، وأكثرهم من شيوخ شيوخه، وفيهم الضعفاء كذلك، أي ليس توثيقاً قوياً. والمرتبة الثانية لا تكاد تكون، لأن ابن حبان لا يكاد يذكر شيوخه في "ثقاته". وهؤلاء لا يكاد يذكرهم في "ثقاته" وإنما تجدهم في "صحيحه". وشرطه في "صحيحه" أحسن من شرطه في "ثقاته". وأما المرتبة الثالثة فيعكر على كلام المعلمي إخراج ابن حبان لضعفاء مشهورين في ثقاته، وبعضهم جرحهم بنفسه في كتابه المجروحين. أما المرتبة الرابعة، إن نص ابن حبان على أنه قد سبر مروايات الراوي كما فعل مع بقية الحمصي فيعتبر توثيقه، لكن هذا نادر جدا للأسف. أما المرتبة الخامسة وهي التي تشمل عامة كتابه، فقد اعترض الألباني على حكم المعلمي عليها وقال: «غير قد ثبت لديّ بالممارسة أن من كان منهم من الدرجة الخامسة فهو على الغالب مجهول لا يعرف‏».

فالخلاصة أن مجرد ذكر ابن حبان للرجل في كتابه "الثقات" لا يفيد توثيقاً يعتد به، والله أعلم. وليت الأمر يقتصر على التساهل بتوثيق المجاهيل، بل هو بالعموم رخو متساهل بتضعيف المتروكين، وانظر مثلا حكمه على إسماعيل بن سلمان بن أبى المغيرة الأزرق بأنه "يخطئ" بينما هو متروك شديد الضعف. وكذلك وثق أبيّ بن عباس بن سهل، مع أنه منكر الحديث، متفق على ضعفه (ولم يصح أن البخاري احتج به، بل ضعفه). ومثل هذا كثير، مع ما ذكرنا من أنه يبالغ أحيانا بجرح الثقات. والخلاصة أن أحكام ابن حبان التي تخالف النقاد، فيها نظر.