منهج العجلي

العجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجاهيل من القدماء. وقد ذكر ابن الوزير اليماني (ت840هـ) في "العواصم والقواصم" (8|27) أنه يوثق الصدوق في روايته بغض النظر عن حاله في دينه. قال المعلمي اليماني في "الأنوار الكاشفة" (ص68): «توثيق العِجْلي –وجدته بالاستقراء– كتوثيق ابن حبان تماماً أو أوسع». والمعلمي من أهل الاستقراء. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7|633): «فالعجلي معروفٌ بالتساهل في التوثيق كابن حبان تماماً. فتوثيقه مردودٌ إذا خالف أقوال الأئمة الموثوق بنقدهم وجرحهم». وقال في فقال في "تمام المنة": «توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان».

قال الشيخ السعد ما مختصره: «لا يخفى أن ابن حبان عنده أن الثقة الذي لم يُجرح. والعجلي قريب مذهبه من مذهب ابن حبان، وأنه يتوسع في توثيق ‏المجاهيل وبالذات إذا كانوا من طبقة كبار التابعين وطبقة التابعين... وإذا تتبع الإنسان كلام العجلي: لو تتبع مئتين راوي أو ‏ثلاثمئة راوي ممن ذكرهم العجلي في كتابه "الثقات" وحكم بتوثيقهم العجلي... سوف تجد هذا ظاهراً. ولذلك نص المعلمي على هذا. والعجلي لا شك أنه من كبار أهل العلم والفضل، لكن فيما يتعلق بتوثيق المجاهيل هو هذا الشيء يسلكه، نعم، ‏ويتوسع فيه. وكذلك أيضا يتساهل ببعض الضعفاء فيوثقهم أيضاً. كما أنه أحياناً قد يكون الشخص لا يصل إلى درجة أن يقال عنه "ثقة ثبت" أو "ثقة"، يصل إلى ‏درجة "الصدوق" أو "الثقة الذي له أوهام"، فيقول عنه مثلاً: "ثقة" أو "ثقة ثبت"، وما شابه ذلك. فهو عنده شيء من التساهل في هذا». وقال الوادعي: " عرف بالاستقراء من تفرده – مع ابن حبان- بتوثيق بعض الرواة الذين لم يوثقهم غيرهما، فهذا عرف بالاستقراء، و إلاَّ فلا أعلم أحداً من الحفاظ نصَّ على هذا، والذي لا يوثقه إلا العجلي والذي يوثقه أحدهما أو كلاهما فقد لا يكون بمنزلة صدوق، ويصلحُ في الشواهد والمتابعات، وإن كان العجلي يعتبر أرفعُ في هذا الشأن، فهما متقاربان..". وقبله قال ابن الوزير (840 هـ) في العواصم عن العجلي "انه يوثق الصدوق في روايته بغض النظر عن حاله في دينه".

ولا ريب أن المعلمي والألباني والسعد والوادعي من ذوي الاطلاع الواسع، فشهادتهم في الاستقراء معتبرة. وقبل هؤلاء فإن ابن حجر في التقريب لا يصرح عادة بوثاقة أي راوي يذكر ان العجلي وثقه (أرى هذا على الغالب وليس دوما)، وقد ذكر هذا الألباني. نضيف لهم محقق كتاب الثقات للعجلي، عبد العليم عبد العظيم البستوي إذ قال في معرفة الثقات (1|125) ما مختصره: يظهر تساهل العجلي في الأمور التالية : 1 إطلاق "ثقة" على الصدوق فمن دونه. 2 إطلاق "لا بأس به" على من هو ضعيف. 3 إطلاق "ضعيف" على من هو ضعيف جدا أو متروك. 4 توثيق مجهولي الحال ومن لم يرو عنه إلا واحد.
وقد ذكر أمثلة على هذه الأنواع ثم قال: "وسرد هذه الأمثلة من أقوال العجلي لا يعني أنه يختلف مع النقاد الآخرين دائما، بل الأمر بالعكس فإنه والحمد لله يتفق معهم في الغالب... وفائدة هذا يظهر حينما ينفرد العجلي بتوثيق أحد الرواة أو يختلف قوله عن أقوال الآخرين".

ومن تأمل حال أئمة الجرح والتعديل من المتقدمين لوجد أنهم لا يعتدون بأقوال العجلي ويضربون عنها الذكر صفحاً، كأنها لم تكن. وإنما قام بعض المتأخرين باستعمال أقواله إذا وافق الحديث مذهبهم، لكن إذا خالفه، تجاهلوا قول العجلي كما كان يفعل المتقدمون. وهذا ما تجده عند ابن الجوزي، حيث غالباً ما يتجاهل قول العجلي ويحكم على الرواة بالجهالة، إلا في أحيان قليلة فتجده ينكر على الدارقطني تجهيله لراو بحجة توثيق العجلي له (رغم أن الدراقطني مسبوق بحكمه بالجهالة).

وقد اضطرب المتأخرون كثيراً في شأن من لم يوثقه إلا العجلي وابن حبان. وسبب اضطرابهم هو قاعدة فلسفية واهية أخذوها من المتكلمين. قالوا: توثيق الإمام مقدم على جهل غيره من الأئمة لأن مع الموثق زيادة علم. كذا قالوا بإطلاق! ولا ريب في أن إطلاق هذا مخالف للعقل والواقع ومخالف لمنهج الأئمة المتقدمين. فإن الأئمة يختلفون مع بعضهم البعض في معايير التوثيق. فتجدهم أحياناً يختلفون في حكمهم على الراوي مع أنه ليس لواحد منهم زيادة علم على الآخر، كما تجده أحياناً في اختلاف الرازيين أو في اختلاف ابن مهدي مع القطان. وهذا راجع لاختلاف الاجتهاد وليس سببه جهل من الإمام أو زيادة علم من الإمام الآخر! فلذلك تجد إماماً كالذهلي يقول إن رواية ثقتين عن المجهول تكفي لرفع الجهالة عنه، بينما إمام آخر كأبي حاتم يرى أن هذا بإطلاق غير كافٍ فيحكم على الرجل بالجهالة. ولا يُقال أن أحدهما عنده زيادة علم على الآخر. ومثال هذا عند الأئمة المتقدمين ما قاله ابن عدي في الكامل (4|298): «إذا قال مثل ابن معين (عن رجل) "لا أعرفه"، فهو غير معروف. وإذا عرفه غيره، لا يعتمد على معرفة غيره، لأن الرجال بابن معين تُسبَرُ أحوالهم». طبعاً يستثنى من هذه القاعدة من كان في طبقة ابن معين خاصة من المصريين.

والعجلي قد أدركه أغلب نقاد الحديث، وقد توفي بنفس السنة التي توفي بها مسلم (عام 261هـ). ومن تأمل أحوال الرجال، لوجد الأئمة المتقدمين قد أطلقوا الجهالة على عدد كبير جداً ممن وثقهم العجلي، رغم معرفتهم بلا شك بقوله. لكن لما عرفوا مذهبه في توثيق من لم يرو عنه إلا واحد حتى لو لم يكون عنده علم عن هذا الرجل (أي كما هو مذهب ابن حبان)، لم يعتدوا بقوله لأنه ليس فيه أن معه زيادة علمٍ عليهم. وقد عاش في بغداد عاصمة المحدّثين، قبل أن ينتقل إلى طرابلس في ليبيا. وقد ذكر أنه دخل على أحمد وهو محبوس في محنته. والنقاشات العظيمة بين أهل الحديث قد حدثت قبل ذلك الزمن، لأنه حصل وحشة بين أحمد وبين ابن معين وابن المديني بسبب موقفهما من الفتنة. فأين كان العجلي عن تلك المجالس التي يجتمع فيها الكبار أمثال أحمد والشاذكوني وابن المديني وابن معين وغيرهم من كبار الحفاظ فيتذاكرون الحديث ويتناقشون في علل الحديث؟ وكثير من هذه المجالس نقلها الخطيب والحاكم وأصحاب السؤالات وغيرهم، فلم نجد في أحد منها ذكراً للعجلي!

ثم ما يزال الطلاب يسألون الحفاظ عن رواة الحديث ويذكرون لهم أحكام غيرهم، فما كان أحد يذكر قول العجلي وهو بلديهم يعيش بينهم. وأين من جمع المصنفات في أقوال الرجال، لم يذكر أقوال العجلي؟ إن قلت إن كتابه لم يصل إليهم، نعم لم يصل، لكن العمدة في نقل هذا على من يسأله لا على الكتب. ولم يكن لدى ابن معين أو ابن نمير أو ابن حنبل كتباً في الجرح والتعديل، بل كانت هناك كتب مسائل جمعها طلابهم من أسئلتهم إليها. فعدم وجود الكتاب لا يمنع من نقل أقواله إن كانت موجودة. ومعلوم أن العجلي كان قد اكتمل علمه في الحديث وأتم رحلاته قبل زمن المحنة بزمن. وقد كان بينهم بكامل علمه فما كانوا يسألوه ولا يذكرون أقواله، مع أنهم ذكروا قوماً كانت عقيدتهم وأحوالهم سيئة كالشاذكوني ثم ابن خراش وابن عقدة لاحقاً وأمثالهم. وكان هو بريئا من البدع صالح السيرة.

وحتى عدد من المحققين من المتأخرين سلكوا نفس منهج المتقدمين في عدم الاعتداد بمنهج العجلي في توثيق المجاهيل (وهو نفس منهج ابن حبان). وعلى سبيل المثال: عمارة بن حديد. قال عنه أبو حاتم: «مجهول». وقال أبو زرعة: «لا يُعرف». وقال ابن عبد البر: «رجل مجهول». وقال ابن المديني: «لا أعلم أحداً روى عنه غير يعلى بن عطاء». وقال العجلي في "معرفة الرجال" (2\162): «حجازي تابعي ثقة»!! وذكره ابن حبان في ثقاته (5\141) وأخرج حديثه في صحيحه (11\62) رغم أنه لم يرو عنه إلا يعلى بن عطاء، وليس له أصلاً إلا حديثاً واحداً عن رجل مجهول اسمه صخر، زعم أنه صحابي. وهذا الحديث أشار الترمذي إلى ضعفه فقال عنه: «حسن غريب (كما في نسخة الذهبي. وهو تضعيف باصطلاح الترمذي)، و لا نعرف لصخر عن النبي r غير هذا الحديث». والحديث ضعفه أبو حاتم وابن الجوزي وابن القطان وكثير غيرهم. قال الذهبي في الميزان (5\211): «صخر لا يعرف إلا في هذا الحديث الواحد. ولا قيل إنه صحابي إلا به. ولا نَقَلَ ذلك إلا عمارة. وعمارة مجهول، كما قال الرازيان. ولا يُفرح بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف». ومن الواضح أنه تجاهل ذكر العجلي أصلاً.

منصور الكلبي وقد وثقه العجلي فقال: منصور الكلبي: «مصري، تابعي، ثقة». قلت: توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان، ولذلك لم يعتمده ههنا الذهبي وغيره من المحققين. فقال الذهبي في ترجمته من "الميزان" : «ما روى عنه سوى مرثد المزني (مفتي مصر) هذا الحديث. ولم يصححه عبد الحق». وقال عنه في الكاشف: «لا يُعرف». والحق مع الذهبي إذ حكمه موافق لحكم الأئمة الأوائل. قال ابن المديني عن منصور: «مجهول لا أعرفه». وقال ابن خزيمة: «لا أعرفه». وابن حجر مع ذكره لتوثيق العجلي له في "التهذيب" لم يتبن هذا التوثيق في "التقريب" حيث قال عنه: «مستور». ولهذا ضعف الخطابي في "المعالم" حديث منصور فقال: «ليس بالقوي، وفي إسناده رجل ليس بالمشهور».

الجدير بالذكر أن كتاب العجلي قد سُمِّيَ بأسماء كثير مثل "معرفة الثقات" و "الجرح والتعديل" و "السؤالات" و "التاريخ" لكن التسمية الأصح هي "معرفة الرجال". لأنه لم يقتصر على الثقات فحسب، بل هناك جماعة جرحهم بالضعف أو الترك أو الكذب أو الزندقة. فهو كتاب عام في تواريخ الرجال تعرض فيه العجلي لكل أنواع الرواة. لكن بسبب شدة تساهله وفرطه في التوثيق، أدى ذلك إلى أن الغالبية العظمى من أحكامه على الرجال هي بالتوثيق، فغلب على الكتاب اسم "الثقات".