منهج أحمد بن حنبل

منهج أحمد في توثيق الرجال معتدل، وهو أسهل من ابن معين في التوثيق. قيل ليحيى بن معين (كما في العلل ومعرفة الرجال 1|114): «لو أمسكت لسانك عن الناس فإن أحمد يتوقى ذلك؟ فقال: هو والله كان أشد في الكلام في الرجال، ولكنه هو ذا اليوم يمسك نفسه».

الإمام أحمد لم يشترط الصحة في مسنده

جاء في خصائص المسند لأبي موسى المديني (ص27): إن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لأبيه: «ما تقول في حديث ربعي عن حذيفة؟». قال: «الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟». قال (عبد الله): «يصح؟». قال: «لا، الأحاديث بخلافه. وقد رواه الحفاظ عن ربعي عن رجل لم يُسمّه». قال (عبد الله): «قد ذكرتَهُ في المسنَد!». فقال (أحمد): «قصدت في المسند الحديث المشهور، وتركت الناس تحت ستر الله. ولو أردت أن أقصد ما صحّ عِندي، لم أروِ هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء. ولكنك –يا بُنَيّ– تعرف طريقتي في الحديث: لست أُخالِفُ ما فيه ضعف، إذا لم يكن في الباب شيءٌ يدفعه». ونقل ابن الجوزي في "صيد الخاطر" من خط القاضي أبي يعلى الفراء في مسألة النبيذ، قال: «إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم». وفي فهرسة ابن خير: «قال عبد الله: هذا المسند أخرجه أبي رحمه الله من سبع مئة ألف حديث. وأخرج فيه أحاديث معلولة، بعضها ذكر عللها، وسائرها في كتاب العلل، لئلا يخرج في الصحيح».  وفي "منهاج السنة" لابن تيمية: «وشرطه في المسند أن لا يروى عن المعروف بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف». وقال ابن الجزري في "المصعد الأحمد" «وقد عاجلته المنية قبل تنقيح مسنده». قال الشيخ حمزة المليباري في "نظرات جديدة في علوم الحديث" (71): «وكذلك وُجِدت الموضوعات في جملة من الأحاديث التي أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله بالضرب عليها، فضرب عليها عبد الله، في حين نسي جملة منها». وهناك رواة صرّح الإمام أحمد بأنّه لا يكتب حديثهم ولا يفرح به، مثل: عبد الرحمن بن زياد الأفرقي و ابن أبي ليلى والليث بن أبي سليم. في حين نجد أنّ لهم روايات في المسند.

قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: «لم كرهت وضع الكتب وقد عَمِلتَ المُسْنَد؟ فقال: «عَمِلتُ هذا الكتاب إماماً: إذا اختَلفَ الناسُ في سنّةٍ عن رسول الله r، رُجِعَ إليه». وقال أحمد كذلك: «إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمِئَةٍ وخمسينَ ألفاً (750,000). فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله r، فارجعوا إليه. فإن كان فيه، وإلا ليس بحجة». قال ابن كثير: فاتهُ أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل: إنَّه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في «الصَّحيحين» قريبًا من مئتين.... قال العِرَاقيُّ: ولا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما فيه صحيحاً، بل هو أمثله بالنسبة لما تركه، وفيه الضَّعيف. أقول: بل أقر الفقيه الحنبلي ابن الجوزي بأن فيه الموضوع كذلك.

أحاديث استنكرها أحمد وهي مروية في مسنده

وهناك أمثلة أخرى ومن كتب أخرى:

ملاحظة: معنى قول بعض الأئمة "استنكر حديثه أحمد"، هي لأن الإمام أحمد غالبا ما يخص خطأ الرواة في الإسناد أو المتن بالنكارة، وإن كانوا من كبار الثقات. وهذه الصيغة ليست بالضرورة جرحاً في الراوي، فالثقة قد يُخطئ ويُستنكر له بعض الأحاديث. انظر كلام طارق عوض الله في مقدمته للمنتخب من العلل للخلال (ص 14-27).

حجة النافين لاحتجاج أحمد بالحديث الضعيف

لقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه قال: «الحديث الضعيف أحبُّ إليَّ من رأي الرجال». وعيّر بعض الناس أهل الحديث بأنهم يبنون اختياراتهم الفقهية بناءً على الأحاديث الضعيفة والباطلة، بدلاً من القياس وفق القواعد الفقهية المتينة. ويرى بعض المحققين أن هذا خطأ على أهل الحديث. فليس هذا نص قوله، ولا هذا مقصوده.

جاء في تاريخ بغداد (13|448) وفي كتاب "السنة" المنسوب لعبد الله بن أحمد (1|180) قال: سألت أبي عن الرجل يريد أن يسأل عن الشيء من أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره. وفي مِصْرِهِ قومٌ من أصحاب الرأي ومن أصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف الإسناد والقوي الإسناد. فمَن يسأل: أصحاب الرأي أو أصحاب الحديث على ما كان من قلة معرفتهم؟ قال: «يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي. ضعيف الحديث خيرٌ من رأي أبي حنيفة». قال ابن حزم في "الإحكام" (6|226): «صدق رحمه الله. لأن من أخَذَ بما بَلَغهُ عن رسول الله (r) وهو لا يدري ضعيفه، فقد أُجِرَ يقيناً على قصده إلى طاعة رسول الله (r) كما أمره الله تعالى». فهذا جواب الإمام أحمد في مسألة قد يواجهها سائلٌ مضطرٌّ في ظروفٍ لا يجد فيها عالماً بسنة رسول الله (r) يعرف الحديث الصحيح من الحديث الضعيف. ففي هذه الظروف الصعبة فقط، يجيز الإمام أحمد – لِمَن هذه حاله– أن يسأل أهل الحديث الذين تنقصهم المعرفة بالصحيح والضعيف، ولا يجيز له أن يسأل أصحاب الرأي (الذين كذلك وصفهم في السؤال بعدم معرفة الصحيح من الضعيف). هذا والمعروف عن الإمام أحمد شدته على الأحناف لِما حصل أيام الفتنة، فرأى أن يذهب الرجل إلى صاحب حديث أحسن بتقديره من الشيخ الحنفي.

أما ما يفعله الإمام الترمذي من سرد الحديث الضعيف وبيان ضعفه وعدم ثبوته، ثم قوله أن العمل عليه، فليس معنى هذا أنه يحتج به. وكيف يحتجُّ بقولٍ يُثْبْتُ بنفسِهِ أن النبي (r) ما قاله؟! بل يقصد أن معنى الحديث صحيح لما يدل عليه القياس وقواعد الشريعة، وقد عمل به فلان وفلان، لكن الحديث لا يصح. أما من قال أن الحديث الضعيف أفضل من رأي الرجال. فنقول إن الحديث إذا لم تثبت نسبته لرسول الله (r) فهو قطعاً من رأي الرجال. وليس هو كالاجتهاد المرتكز على القياس وفق القواعد الفقهية الثابتة، بل هو عادة خطأ من راوٍ أو كذبة من وضّاع أو رأيٍ محض من أحد الرواة. فكيف تستبدل ما هو خير بالذي هو أدنى؟! والمذهب المبني على حديث ضعيف هو بدوره مذهب ضعيف.

فنسبة هذا المذهب الرديء إلى الإمام أحمد فيها نظر. ويوضحه ما جاء في مسائل عبد الله (3|1311) قال: سألت أبي عن الرّجُل: يكون له الكتب المصنَّفة فيها قول رسول الله (r) واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصَرٌ بالحديث الضعيف المتروك منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: «لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمرٍ صحيحٍ يسألُ عن ذلك أهل العلم». قلت: فهذا نصٌّ صريحٌ من الإمام أحمد أنه لا يجوز –لمن ليس له بصر بالحديث– أن يعمل به، حتى يسأل من يميز من أهل العلم بين الصحيح والضعيف. أفيُعقَلُ بعد هذا أن نقول عن من يعرف ويميّز بين الصحيح والضعيف في الحديث –مثل الإمام أحمد– أنه يُفتي أمة محمد (r) بحديثٍ ضعيفٍ عنده غير صحيح؟‎!‎

والصواب أن الضعيف الذي يحتجون به أو يستأنسون به أو يقدمونه على الرأي، هو الحديث الذي لم يتبيّن صوابه ولا خطؤه، وذلك لاحتمال أن يكون قولاً للنبي (r). وقد يطلقون عليه بالضعف أو يطلق عليه المتأخرون بالحسن. وأما ما تبين فيه الخطأ، وثبت أنه قول صحابي أو تابعي وليس قولاً للنبي (r)، فلا يحتج به، ولا مجال لتقديمه على رأيٍ آخر، لتساويهما في الأمر. مع العلم أنه ثبت من خلال الاستقراء أن هذه الأحاديث التي يحتجون بها، هي عند المتأخرين من قبيل الحديث الحسن، هذا إذا لم يأت خلافها. والمتأخرون يحتجون بهذا مطلقاً ويتوسعون فيه حتى لو عارضه حديثٌ صحيح!

قال الأثرم: سُئِلَ أبو عبد الله (أحمد بن حنبل) عن عَمْرِو بن شُعَيْب، فقال: «أنا أكتب حديثه وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه شيء». وقال الأثرم (كما في شرح العلل ص188): «كان أبو عبد الله، ربما كان الحديث عن النبي (r)، وفي إسناده شيء فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري. وربما أخذ بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه». أما المتأخرون فيحسّنون حديث عمرو بن شعيب ويحتجون به مطلقاً. ومثال آخر: قال الدوري في تاريخه (231): «سمعت أحمد بن حنبل وقيل له: "يا أبا عبد الله، ما تقول في موسى بن عبيدة الربذي وفي محمد بن إسحاق؟". فقال: "أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث -كأنه يعني المغازي ونحوها-. وأما موسى بن عبيدة الربذي فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. فأما إذا جاء الحلال والحرام، أردنا أقواما هكذا". وقبض على أصابع يديه الأربع». فدل على أنه يُفصّل في أحاديث ابن إسحاق والربذي، فيأخذ به في المغازي والسير وفي المتابعات، وأما إذا تفرد بحكم فقهي فلا يأخذ به. أما المتأخرون فيحسنون تلك الأحاديث ويحتجون بها.

وفي ضوء هذه النصوص يمكن القول بأن احتجاج أحمد بتلك الأحاديث الضعيفة التي لم يتبين فيها الخطأ كان على سبيل الاحتياط لاحتمالها أن تكون مما قاله النبي (r)، وليس احتجاجه بها كما يحتج بجميع أنواع الأحاديث الصحيحة وما يقاربها.

حجة المثبتين لاحتجاج أحمد بالضعيف

قال المثبت: يأخذ الإمام أحمد بالضعيف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه، أو لم يكن في الباب غيره. وهذا على تفصيل فيما يبدو بعد استقراء صنيعه.

1) فمثلاً قال عن عبد الرحمن ابن إسحاق الواسطي: «متروك الحديث»، «ليس بشيء. منكر الحديث» (كما في موسوعة أقوال الإمام أحمد 2|317 لأبي المعاطي). ثم احتج به في وضع اليدين تحت أو على السرة، في أثر علي المشهور.
* والجواب أن: أثر علي (ر) لم يحتج به الإمام أحمد: جاء في (مسائل أبي داود 220 طارق): «قال: وسمعته سئل عن وضعه، فقال: "فوق السرة قليلاً، وإن كان تحت السرة فلا بأس"». فانظر –بارك الله فيك– لم يقل: «فوق السرة قليلاً، وتحت السرة». فالسنة عنده فوق السرة قليلاً، وقال: «وإن كان تحت السرة فلا بأس». ولو كان أثر علي الذي في سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، سنة عنده، لما قال: «فلا بأس». ولقدَّمَه علَى قوله: «فوق السرة قليلاً». فتفكر. ومما يؤيد أنه لم يأخذ بحديثه، أن ابنه عبد الله قال: «رأيت أبي إذا صلى، وضع يديه إحداهما على الأخرى فوق السرة».

2) قال المثبت: وقال أحمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل: «منكر الحديث» (كما في الموسوعة 2|285) ثم أخذ بروايته في الصدقة بوزن شعر المولود (كما نقله عنه ابن القيم في تحفة المودود).
* والجواب: قال صالح بن أحمد: قال أبي: «إن فاطمة (ر) حلقت رأس الحسن والحسين، وتصدقت بوزن شعرهما ورقاً». قلت: هذا قول الإمام أحمد. وهل جميع الطرق في سندها عبد الله بن محمد بن عقيل، حتى نقول أن الإمام أحمد أعتمد عليه وأخذ بروايته فقط؟

3) قال المثبت: قول: «رب اغفر لي، رب اغفر لي» بين السجدتين في حديث حذيفة (ر). فإنه لم يثبت في الباب شيء، حتى روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أن كان لا يقول شيئاً، و أن طاووساً كان يقرأ القرآن بينهما. وقد أخرج مسلم حديث حذيفة (782) من رواية أبي معاوية وابن نمير وجرير كلهم عن الأعمش بدون ذكر هذا الدعاء. وقد تفرد بذكره حفص بن غياث عن الأعمش دون سائر أصحابه كما عند ابن خزيمة (684). وقد أخذ بهذه الزيادة الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود (رقم 240 – طارق): «قال: قلت لأحمد ما يقول بين السجدتين؟ قال: "رب اغفر لي"».
* الجواب: هذا صحيح. وجاء في المغني (1|309): «قال رحمه الله: يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" يكرر ذلك مراراً. والواجب منه مرة، وأدنى الكمال ثلاث». وهذا يدل على أنه صحيح عنده أو حسن، وإلا لما أفتى به. وأخذ به أيضاً: ابن خزيمة والحاكم. وأحمد يتساهل في مثل هذه الأمور.

4) قال المثبت: في مسائل عبد الله (85) عن أبيه قال في التسمية على الوضوء: «لا يثبت عندي هذا، ولكن يعجبني أن يقوله». وفي مسائل أبي داود (30) عن أحمد قال: «إذا بدأ يتوضأ يقول: "بسم الله"». وفيها (31) عن أحمد قال: «ولا يعجبني أن يتركه خطأًً ولا عمداً، وليس فيه إسناد». هذا فيه أخذ بالضعيف.
* الجواب: البسملة مطلوبة في الوضوء وفي غيره. والإمام أحمد قد يستدل بعموميات في مثل هذا.

5) قال المثبت: وفي مسائل عبد الله (112) أن أباه نهاه عن كثرة الوضوء، وقال له: «يقال: إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان». وحديث "الولهان" تفرد به حبيب بن أبي حبيب، وعنه قال أحمد: «ليس بثقة»، «كان يحيل الحديث ويكذب»، «كذاب» (الموسوعة 1|223). وانظر كلام ابن حبان عنه في المجروحين (1|323 #272).
* الجواب: هذا الحديث قد رواه الترمذي في جامعه وقال: «وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله». وفي تاريخ ابن معين (رواية الدوري) (3|343) قال: سمعت يحيي يقول: «قد روي سفيان الثوري عن بيان عن الحسن "إن للوضوء شيطان يقال له الولهان". هذا بيان بن بشر». فالظاهر أن الاعتماد على مرسل الحسن البصري. وانظر –بارك الله فيك– قول الإمام أحمد حيث قال «يقال» ولم يقل «قال رسول الله (r)». ولو كان ثابت عنده عن النبي (r) لما قال: «يقال إن للوضوء...».

6) قال المثبت: وفي مسائل أبي داود (1001) عن أحمد: «المرأة تكفن في خمسة أثواب». وحديث تكفين المرأة في خمسة أثواب في المسند (6|380) عن ليلى الثقفية، وفيه مجهول وانظر نصب الراية (2|258).
* الجواب: حديث تكفين المرأة في خمسة أثواب، رواه أحمد وأبو داود. قال العظيم آبادي في "عون المعبود شرح سنن أبي داود" (8|434): «قال الحافظ في التلخيص: والحديث أعله ابن القطان بنوح وأنه مجهول –وإن كان محمد بن إسحاق قد قال إنه قارئاً للقرآن–. وداود حصل له فيه تردد: هل هو داود بن عاصم بن عروة بن مسعود، أو غيره. فإن يكن بن عاصم فثقة. فيعكر عليه بأن ابن السكن وغيره قالوا: إن حبيبة كانت زوجاً لداود، فحينئذ لا يكون داود بن عاصم لأم حبيبة عليه ولادة، أي لأنه زوج ابنتها. وما أعله به ابن القطان ليس بعلة. وقد جزم ابن حبان بأن داود هو: ابن عاصم، وولادة أم حبيبة مجازية إن تعيّن ما قاله ابن السكن. وقال بعض المتأخرين: إنما هو ولدته بتشديد اللام، أي قبلته انتهى. قلت: فالحديث سنده حسن صالح للاحتجاج. والله أعلم».
قلت: وممن قال بتكفين المرأة بخمسة أثواب: ابن عمر (ر) والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين. وكثيراً ما يفتي أحمد بن حنبل بقول من سبقه من الصحابة والتابعين، إن لم يكن في الباب ما يناقضه، وإن لم يكن دليله ثابتاً.

7) قال المثبت: في مسائل أبي داود (40) قال في اللحية: «يخللها. قد روي فيه أحاديث ليس يثبت فيه حديث».
* الجواب: تخليل اللحية من النظافة.

8) قال المثبت: وفيها أيضاً (178) أن: «الحائض لا تقرأ القرآن». وساق حديث: «إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع...». ونقل الشيخ طارق في الحاشية عن الإمام أحمد أنه أنكره.

9) وفي كتاب الترجل للإمام أحمد (ص10 #18): أن الإمام أحمد قال في الاكتحال: «وتراً، وليس له إسناد». أي ليس له إسناد يصح. وإلا فيه عن ابن عباس مرفوعاً من رواية عباد بن منصور المشهورة عن ابن أبي يحيى.

10) وفيه (#69) استدلال الإمام أحمد على كراهة حلق القفا بحديث مرسل.

* الجواب: ذلك لأن فيه تشبهاً بالمجوس.

11) قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (657): قال أحمد بن حنبل: «ليس في قطع السدر حديث صحيح»، وكان بعد هذا يكره قطعه.

* أقول: وهذا حق، وليس من جواب عليه إلا أن أحمد كان يعمل بالضعيف أحياناً.

 

وقد تعقب الشاطبي الإمام أحمد في هذا، كما في الاعتصام (2|16). فهذا منهج مستغرب من الإمام أحمد. فكيف الذي يعرف ويميز بين الصحيح والضعيف في الحديث -مثل الإمام أحمد- يفتي أمة محمد (r) بحديث ضعيف عنده غير صحيح؟ ومن العجيب أن ابن القيم قد تحمس لهذا الرأي فقال في إعلام الموقعين (1|31) (في زعمه بوجوب الأخذ بالحديث الضعيف): «وليس أحدٌ من الأئمة إلا وهو موافقُهُ (أي لأحمد بن حنبل) على هذا الأصل من حديث الجملة. فإنه ما منهم أحدٌ إلا وقد قدَّم الحديث الضعيف على القياس». وهذا باطلٌ ومخالفٌ لما قرره شيخه ابن تيمية، واحتجاج بعض الأئمة مثل مالك والشافعي بأحاديث ضعيف أو مرسلة، قد يكون لقرائن معها (مثل عمل المدينة) أو تكون قد صحت عندهم. وهل من أحد يقبل أن يفتي المسلمين في حديث منكر عنده لا يثبت عن النبي (r

احتجاج أحمد بالصحابة

اختلف منهج الإمام أحمد حول الاحتجاج بمذهب الصحابي إن لم يأت خلافه، فأحياناً يحتج به وأحياناً يُعرض عنه. فمثلاً: جاء في مسائل إسحاق بن هانئ (165): «قلت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل): "حديثٌ مرسلٌ عن رسول الله (r) برجالٍ ثبتٍ أحبُّ إليك، أو حديثٌ عن الصحابة أو عن التابعين متصلٌ برجال ثبت؟". قال أبو عبد الله: "عن الصحابة أعجب إلي"». وهذا دليل صريح على أن أحمد يُقدّم قول الصحابي على الحديث المرسل. فلو كان الحديثُ المرسَلُ عنده صحيحاً، لما جاز أن يقدّم أحداً على رسول الله (r). بل الحديث المرسل ضعيفٌ عنده وعند الشافعي وعند أبي حنيفة وعند جمهور العلماء المتقدمين. وهذا التقديم يقتضي أن قول الصحابي حجة إن لم يكن في الباب حديث.

لكن جاء في مسائل أبي بكر الخلال (59): أخبرني عبدالله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: «لا ينظر العبد إلى شعر مولاته»، وكرهه. قال أبي: «وروي عن ابن عباس أنه قال: "لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته"، فكأنه تأول: {أو ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ}. وقال سعيد بن المسيب: "لا تغرنكم هذه الآية التي في سورة النور: {أو ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ}، إنما عنى بها الإماء". لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى جبينها، ولا إلى قرطها، ولا إلى شعرها، ولا إلى شيء من محاسنها». وجاء في (65): أخبرني محمد بن علي، قال: حدثنا الأثرم،قال: سألت أبا عبدالله عن العبد ينظر إلى شعر مولاته، فقال: «لا ينظر إلى شعر مولاته»، وذكر حديث سعيد بن المسيب. قلت له: فما قوله (تبارك وتعالى) {أو ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ}؟ قال: «يقول: من النساء». قيل لأبي عبد الله: الخصي ينظر إلى شعر مولاته؟ قال: «لا». قيل: الخصي وغير الخصي عندك في هذا سواء؟ قال: «نعم»، وجعل يستعظم ما يستجيز بعض الناس من إدخال الخصيان على نسائهم. وذكرت لأبي عبد الله حديث ابن عباس: "لا بأس أن ينظر إلى شعر مولاته"، فقال: «ابن عباس كان له تأويل في القرآن كثير»، ثم قال: «وهذا من أي وجه هو؟». قلت له: السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس. فقال: «نعم». قلت: أفليس هذا إسناد؟ قال: «ليس به بأس».

فهنا رد تفسير حِبر القرآن ابن عباس برأيه من غير حديث ولا رأي صحابي، بل احتج بقول تابعي تلميذ لابن عباس. مما دل على أن قول الصحابي ليس بحجة عند أحمد. والله أعلم.