أهمية معرفة الفقهاء للصحيح من الضعيف

 

قال ابن الجوزي في مقدمة كتابه "التحقيق في أحاديث الخلاف" (1|23): «لمّا نظرت في التعاليق، رأيت بِضاعة أكثَرِ الفقهاء في الحديث مزّجاة: يُعَوِّلُ أكثرهم على أحاديث لا تصُح، ويعرِضُ عن الصّحاح، ويُقلد بعضهم بعضاً فيما ينقل. ثم قد انقسم المتأخرون ثلاثة أقسام. القسم الأول: قومٌ غلب عليهم الكسل، ورأوا أن في البحث تعباً و كِلفَةً، فتعجلوا الراحة واقتنعوا بما سطره غيرهم. والقسم الثاني: قومٌ لم يهتدوا إلى أمكِنَة الحديث، وعلموا أنه لا بد من سؤال من يعلم هذا، فاستنكفوا عن ذلك. والقسم الثالث: قومٌ مقصودهم التوسع في الكلام طلباً للتقدم والرئاسة واشتغالهم بالجدل والقياس، ولا التفات لهم إلى الحديث: لا إلى تصحيحه ولا إلى الطعن فيه. وليس هذا شأن من استظهر لدينه وطلب الوثيقة من أمْرِه.
ولقد رأيت بعض الأكابر من الفقهاء ويقول في تصنيفه عن ألفاظٍ قد أُخرِجَت في الصّحاح: "لا يجوز أن يكون رسول الله
r قال هذه الألفاظ"!! ويَرُدّ الحديث الصحيح، ويقول: "هذا لا يُعرَف". و إنما هو رأيته قد استدل بحديث زعم أن البخاري أخرجه، وليس كذلك. ثم نقله عنه مصنف آخَرَ كما قال تقليداً له. ثم استدل في مسألةٍ فقال دليلنا ما روى بعضهم أن النبي r قال كذا، و رأيت جمهور مشايخنا يقولون في تصانيفهم دليلنا ما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن رسول الله، و دليلنا ما روى أبو بكر عبد العزيز بإسناده، و دليلنا ما روى ابن بطة بإسناده. و جمهور تلك الأحاديث في الصحاح وفي المسند. وفي أن السبب في اقتناعهم بهذا التكاسل عن البحث.
و العجب ممن ليس له شغل سوى مسائل الخلاف، ثم قد اقتصر منها في المناظرة على خمسين مسألة. وجمهور هذه الخمسين لا يَستَدِلّ فيها بحديث. فما قدر الباقي حتى يتكاسل عن المبالغة في معرفته؟!
و ألوم عندي ممن قد لمته من الفقهاء جماعة من كبار المحدثين، عرفوا صحيح النقل وسقيمه وصَنّفوا في ذلك. فإذا جاء حديثٌ ضعيفٌ يخالف مذهبهم، بَيّنوا وجه الطعن فيه. وإن كان موافقاً لمذهبهم، سكتوا عن الطعن فيه. وهذا يُنبئ عن قِلة دينٍ وغَلبةِ هوى». قال وكيع: «أهل العِلم يكتبون ما لهم و ما عليهم. و أهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم».

وقال ابن الجوزي منتقداً رد الفقهاء الأحاديث الصحيحة بحجة معارضتها للأحاديث الضعيفة: «وما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث ليعارض بها الأحاديث الثابتة».

 

 

 

مذاهب الناس في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل


المذهب الأول: لا يُعمَلُ به مُطلَقاً: لا في الأحكام، ولا في الفضائل. هذا هو مذهب عامة السلف. وحكاه ابنُ سيّد الناس في "عيون الأثر" عن يحيى بن مَعين. وهو مذهب مالك والبخاري ومسلم وشُعبة ويحيى بن سعيد القطان وأبو حاتم الرازي. وعليه إجماع الصحابة. قال الكوثري في "المقالات" (ص45): «والمنعُ من الأخذ بالضعيف على الإطلاق: مذهبُ البخاري، ومسلم، وابن العربي شيخ المالكية في عصره، وأبي شامة المقدسي كبير الشافعية في زمنه، وابن حزم الظاهري، والشوكاني. ولهم بيانٌ قويٌّ في المسألة لا يُهمل». وفي تهذيب التهذيب (11|250): كان يحيى بن معين يقول: «من لم يكن سَمحاً في الحديث، كان كذّاباً!». قيل له: «وكيف يكون سمحاً؟». قال: «إذا شَكَّ في الحديث تركه». قلت: أما أنا فاخترت أن أكون سمحاً في الحديث. فاختر لنفسك المذهب الذي يسرك أن تراه يوم القيامة.

وحجة ابن معين وغيره من العلماء هو ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله r قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ». قال النووي في شرحه للحديث: يُرَى أي يَظُنُّ. وقال: «وأما فقه الحديث فظاهر. ففيه تغليظ الكذب والتعرض له، وأن من غلب على ظنه كذب ما يرويه فرواه، كان كاذباً. وكيف لا يكون كاذباً، وهو مخبِرٌ بما لم يكن؟!».

 

المذهب الثاني: أن يُعمَل به مُطلَقاً. وهو مذهب بعض العراقيين (خاصة من أهل الكوفة). ومذهب جمهور الصوفية، وكثيرٌ من الفقهاء المتأخرين. قال السيوطي في "تدريب الراوي" (ص299) عن الحديث الضعيف: «ويُعمَلُ بالضعيف أيضاً في الأحكام إذا كان فيه احتياط»!! وقال صاحب "الدر المختار" (1|87): «وأما الموضوع فلا يجوز العمل به بحال. أي ولو في فضائل الأعمال». فعقّب عليه الشيخ أحمد الطحطاوي (ت1231هـ) في "حاشيته": «أي: حديث كان مخالِفاً لقواعد الشريعة. وأما لو كان داخلاً في أصلٍ عام، فلا مانع منه! لا بجَعْلِه حديثاً، بل لدخولِه تحت أصلِ عام»!!!

وهذا مذهبٌ قبيحٌ جداً. قال النووي في الرد عليه في "شرحه على صحيح مسلم" (1|126): «وعلى كُلِّ حالٍ، فإن الأئمة لا يروُون عن الضعفاء شيئاً يحتجون به على انفراده في الأحكام. فإن هذا شئٌ لا يفعله إمامٌ من أئمة المحدِّثين، ولا مُحَقّقٌ من غيرهم من العلماء. وأما فِعلُ كثيرين من الفقهاء –و أكثرِهم– ذلك، واعتمادُهم عليه، فليس بصواب. بل قبيحٌ جِداً. وذلك لأنه إنْ كان يَعرِفُ ضَعفه، لم يُحِلَّ له أن يحتجَّ به. فإنهم متفقون (أي علماء الإسلام) على أنه لا يُحتَجُّ بالضعيف في الأحكام. وإن كان لا يَعرِف ضَعفه، لم يحِلّ له أن يَهجُمَ على الاحتجاج به من غير بحثٍ عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفاً، أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفاً».

مع العلم أن من أجاز العمل بالحديث من المتقدمين من أهل العراق (كأحمد بن حنبل مثلاً)، إنما قصدوا الحديث الحسن، كما بينه شيخ الإسلام في بحث طويل له. وهذا هو الصواب. إذا كان الحديث الحسن هو من أنواع الحديث الضعيف عند المتقدمين. ولم يشتهر هذا اللفظ (كاصطلاح حديثي مشهور) إلا عند الترمذي. ولم ينتشر في كتب الفقهاء إلا في مرحلة متأخرة. ولذلك نقل ابن تيمية والنووي وغيرهما الإجماع على تحريم العمل بالحديث الضعيف (غير الحسن) في الأحكام. وإنما ظهرت طائفة خالفت هذا الإجماع بعدهما وعملت بالضعيف جداً، بل بالموضوع.

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (1|251): «وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرّم شيءٌ إلا بدليلٍ شرعي. لكن إذا عَلِمَ تحريمه، وروى حديثاً في وعيد الفاعل له، ولم يَعلم أنه كَذِب، جاز أن يرويه. فيجوز أن يُروى في الترغيب والترهيب، ما لم يُعلَم أنه كذب، لكن فيما عُلِمَ أن الله رَغَّبَ فيه أو رَهَّبَ منه بدليلٍ آخَرَ غير هذا الحديث المجهول حاله. فيجوز أن يُروى في الترغيب والترهيب ما لَم يُعلم أنه كذب، لكن فيما عَلِمَ أن الله رَغَّبَ فيه أو رَهِبَ منه بدليلٍ آخر غير هذا الحديث المجهول حاله. وهذا كالإسرائيليات، يجوز أن يُروى منها ما لم يُعْلَم أنه كذبٌ للترغيب والترهيب، فيما عَلِمَ أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا. فأما أن يُثبِتَ شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تُثبُتْ، فهذا لا يقوله عالم. ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة.
ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف (أي باصطلاح المتأخرين) الذي ليس بصحيح ولا حسن، فقد غلط عليه. ولكن كان في عُرْفِ أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء، أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف. والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيفٍ متروكٍ لا يحتج به، وإلى ضعيفٍ حسن. كما أن ضَعْفَ الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرضِ مخوِّفٍ يمنع التبرع من رأس المال، والى ضعيفٍ خفيفٍ لا يمنع من ذلك.
وأول من عُرِفَ أنه قسَّمَ الحديثَ ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف، هو أبو عيسى الترمذي في جامِعِه. والحسنُ عنده ما تعدَّدَت طرقه، ولم يكن في رواته متهَم وليس بشاذّ. فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به (أي إن لم يكن في الباب حديثٌ صحيح). ولهذا مَثَّلَ أحمد الحديث الضعيف الذي يحتجُّ به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما. وهذا مبسوطٌ في موضِعِه».

قلت: وفي بعض ما ذكر شيخ الإسلام نظر، إذ أنه ذكر إبراهيم الهجري وهو متفق على تضعيفه، فكيف يصير حسن الحديث؟

 

المذهب الثالث: جواز الاستشهاد بها في فضائل الأعمال ضمن شروط متشددة.

قال ابن مهدي كما أخرجه البيهقي في "المَدخل": إذا رَوَيْنا عن النبي r في الحلال والحرام والأحكام، شدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا في الرجال. وإذا روَينا في الفضائل والثواب والعقاب، سهّلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال. وقال سفيان بن عيينة: «لا تسمعوا من بَقِيّة ما كان في سُنّة، واسمعوا منه ما كان في ثواب». وقال أبو عبد الله النوفلي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «إذا روينا عن رسول الله r في الحلال والحرام والسنن والأحكام، تشدّدنا في الأسانيد. وإذا روينا عن النبي r في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه، تساهلنا في الأسانيد». وقال‎ ‎الميموني: سمعت أبا عبد الله يقول: «أحاديث الرقاق يحتمل أن يتساهل فيها، حتى يجيء شيء فيه حُكْم». وتجد غير هذه الأقوال في الكفاية في علم الرواية (1|134).

وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18|72): «وهذه الكتب (أي كتب الزهد) وغيرُها، لا بُدَّ فيها من أحاديثَ ضعيفةٍ وحِكاياتٍ ضعيفةٍ، بل باطلة. وفى الحِلْيةِ (أي كتاب "حلية الأولياء" لأبي نعيم) من ذلك قَطْعٌ. ولكِنّ الذي في غيرها من هذه الكتب، أكثرُ مما فيها». وقال الخطيب: «وأما أخبار الصالحين وحكايات الزهاد والمتعبدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء، فالأسانيد زينة لها، وليست شرطاً في تأديتها».

قال ابن حجر العسقلاني: «إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: الأول: وهو متفق عليه، أن يكون الضعف غير شديد. فيَخرج مَنِ انفَرَدَ من الكذّابين، والمُتّهَمين بالكذب، ومن فَحُشَ غَلَطُه. الثاني: أن يكون مُندَرِجاً تحت أصلٍ عام معمولٍ به، فيخرج ما يخترع، بحيث لا يكون له أصلٌ أصلاً. الثالث: أن لا يُعتقَدَ عند العمل به ثبوتُه، لِئَلا يُنْسَبُ ثبوته إلى النبي r ما لم يقله». وهذه شروط دقيقة وهامة جداً، لو التزمها العاملون بالأحاديث الضعيفة، لكانت النتيجة أن تضيق دائرة العمل بها، أو تلغى من أصلها. وبيانه من ثلاثة وجوه:

أولاً: يدل الشرط الأول على وجوب معرفة حال الحديث الذي يريد أحدهم أن يعمل به، لكي يتجنب العمل به إذا كان شديد الضعف. وهذه المعرفة مما يصعب الوقوف عليها من جماهير الناس، وفي كل حديث ضعيف يريدون العمل به، لقلة العلماء بالحديث، لا سيما في العصر الحاضر. وأعني بهم أهل التحقيق الذين لا يحدّثون الناس إلا بما ثبَتَ من الحديث عن رسول الله r، وينبّهونهم على الأحاديث الضعيفة، ويحذرونهم منها. بل إن هؤلاء هم أقلّ من القليل. فالله المستعان. من أجل ذلك تجد المبتَلين بالعمل بالأحاديث الضعيفة، قد خالفوا هذا الشرط مخالفةً صريحة. فإن أحدهم –ولو كان من أهل العلم بغير الحديث– لا يكادُ يقِفُ على حديثِ في فضائل الأعمال، إلا ويبادر إلى العمل به دون أن يعرف سلامته من الضعف الشديد. فإذا قيض له من ينبّهَهُ إلى ضَعفه، ركن فوراً إلى هذه القاعدة المزعومة عندهم: «يُعمَلُ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال». فإذا ذكّر بهذا الشرط، سكت ولم ينبُت ببني شفة!
وقد قال العلامة أحمد محمد شاكر: «والذي أراه أن بيان الضعف الشديد في الحديث الضعيف واجِبٌ في كُلّ حال. لأن ترك البيان، يوهم المطّلع عليه أنه حديث صحيح. والخلاصة أن الالتزام بهذا الشرط يؤدي عملياً إلى ترك العمل بما لم يثبت من الحديث، لصعوبة معرفة الضعف الشديد على جماهير الناس».

ثانياً: أن يلزم من الشرط الثاني: «أن يكون الحديث الضعيف مندرجا تحت أصل عام...» أن العمل في الحقيقة ليس بالحديث الضعيف، وإنما بالأصل العام. والعمل به وارد، وُجِدَ الضعيف أم لم يوجد. فيكون هذا الأصل قد دلت عليه أدلة صحيحة من الكتاب أو السنة الشريفة. أما إذا وجد الحديث الضعيف بدون أصلٍ عام، فهذا يعني أن العمل باطِلٌ من أساسه، لأنه لا دليل عليه. فثبت أن العمل بالحديث الضعيف بهذا الشرط شكلي، غير حقيقي. وهذا المُراد.

ثالثاً: إن الشرط الثالث يلتقي مع الشرط الأول في ضرورة معرفة ضعف الحديث، لكي لا يعتقد ثبوته. وقد عرفت أن الجماهير الذين يعملون في الفضائل بالأحاديث الضعيفة لا يعرفون ضعفها. وإذا اشتهر الحديث الضعيف وانتشر العمل به بين الناس، ينسى الناس مع مرور الوقت أن أساس هذا العمل قائم على حديث ضعيف وأنه لا دليل صحيح عليه، وهذا خلاف المراد.

 

قال الشيخ المحققُ جمال الدين الدوَّاني في رسالته "أُنْمُوذَج العلوم": «اتفقوا على أن الحديثَ الضعيفَ، لا تَثبُتُ به الأحكام الخمسة الشرعية، ومنها الاستحباب». ويؤيده قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1|250): «ولا يجوز أن يُعتَمَدُ في الشريعة على الأحاديث الضعيفة –التي ليست صحيحة ولا حسنة–. لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء، جَوّزوا أن يُروى في فضائل الأعمال، ما لم يُعلم أنه ثابت، إذا لم يُعلم أنه كذب. وذلك أن العمَلَ إذا عُلِمَ أنه مشروعٌ بدليلٍ شرعي، ورُوِيَ في فضلِهِ حديثٌ لا يُعلَمُ أنه كذب، جازَ أن يكون الثوابُ حقاً. ولم يَقُل أحدٌ من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديثٍ ضعيف. ومن قال هذا فقد خالف الإجماع».

 

فالحديث الضعيف لا يُعمل به مُطلقاً: لا في الفضائل والمستحبّات ولا في غيرهما. ذلك لأن الحديث الضعيف إنما يفيد الظن. والله –عز وجل– قد ذَمّه في غير موضع من كتابه فقال: {إن الظن لا يُغني من الحقّ شيئاً}. وقال: {إن يتبعون إلا الظن}. وقد قال رسول الله r: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث». متفق عليه.

 

قال الشيخ الألباني في مقدمة "الترغيب والترهيب": «وجملة القول: إننا ننصح إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يَدَعوا العمل بالأحاديث الضعيفة مطلقاً، وأن يوجهوا همتهم إلى العمل بما ثبت منها عن r. ففيها ما يغني عن الضعيفة. وفي ذلك منجاةٌ من الوقوع في الكذب على رسول الله r. والذين يُخالِفونَ في هذا، لا بُدّ وأنهم واقعون فيما ذكرنا من الكذب. لأنهم يعملون بكل ما هبّ ودبّ من الحديث. وقد أشار r إلى هذا بقوله: «كفى بالمرء كَذِباً أن يحدّث بكلّ ما سمِع». أخرجه مسلم. وعليه نقول: كفى بالمرء ضلالاً أن يعمل بكل ما سمع!».
 

الفرق بين الحديث الضعيف والموضوع

الحديث الموضوع نوع من أنواع الحديث الضعيف. فكل حديث ضعيف هو موضوع، وليس العكس بالضرورة. على أن تعريف الحديث الموضوع فيه خلاف طويل. فمن الناس من يعرف الحديث الموضوع: بأنه الحديث الضعيف الذي عُلِم أن رسول الله r لم يقله، وإن كان رواته ثقات وكان سبب الضعف مجرد غلط غير مقصود من الراوي. وهذا هو الأقرب لمنهج المتقدمين. بل إن أبا حاتم الرازي قد صرح بذلك بقوله أن الحديث الباطل هو الحديث الموضوع. وقال جمهور المتأخرين بأن الحديث الموضوع هو الحديث الضعيف الذي ثبت أن راويه كذاب تعمّد وضعه. وبعضهم يضيق هذا في الحديث الذي يعترف راويه بأنه وضعه. بل إن ابن دقيق العيد قد اشتط وزعم أن اعتراف الراوي الكذاب بوضع الحديث ليس كافياً، لأنه قد يكون قد كذب في زعمه بوضع الحديث. ورد عليه الحافظ الذهبي في "الموقظة" بأن هذا سفسطة.

 

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (1|248): «تنازع الحافظ أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: هل في المسند (مسند أحمد) حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع. وأثبت ذلك أبو الفرج، وبيّن أن فيه أحاديث قد عُلِمَ أنها باطلة. ولا مُنافاةَ بين القولين. فإن الموضوع –في اصطلاح أبي الفرج– هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدّث به لم يتعمّد الكذب، بل غلط فيه. ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع. وقد نازعه طائفة من العلماء في كثيرٍ مما ذكره، وقالوا إنه ليس مما يقوم دليلٌ على أنه باطل. بل بيّنوا ثبوت بعض ذلك. لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات، أنه باطلٌ باتفاق العلماء. وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع: المختَلَق المصنوع الذي تعمّد صاحبه الكذب. والكذب كان قليلاً في السلف».


قال المعلمي في مقدمة "الفوائد الموضوعة" (ص11): «1- إذا قام عند الناقد من الأدلة ما يغلب على ظنه معه بطلان نسبة الخبر إلى النبي r فقد يقول "باطل" أو "موضوع". وكلا اللفظين يقتضي أن الخبر مكذوب عمداً أو خطأ. إلا أن المتبادر من الثاني، الكذب عمدًا. غير أن هذا المتبادر، لم يلتفت إليه جامعوا كتب الموضوعات، بل يوردون فيها ما يرون قيام الدليل على بطلانه، وإن كان الظاهر عدم التعمّد. 2- قد تتوفر الأدلة على البطلان، مع أن الراوي الذي يصرح الناقد بإعلال الخبر به لم يتهم بتعمد الكذب، بل قد يكون صدوقاً فاضلاً. ولكن يرى الناقد أنه غلط أو أُدخِلَ عليه الحديث. كثيرًا ما يذكر ابن الجوزي الخبر ويتكلم في راو من رجال سنده، فيتعقبه بعض من بعده، بأن ذلك الراوي لم يتهم بتعمّد الكذب. ويُعلم حال هذا التعقيب من القاعدتين السابقتين».


 

من القرائن التي يُعرف بها الحديث الموضوع

قال ابن الجوزي: «الحديث المنكَر، يقشعرّ له جِلدُ الطالب (أي طالب علوم الشريعة المتقن لها)، وينفر منه قلبه في الغالب».
قال السيوطي في "تدريب الراوي" (1|276): «ومن القرائن (على أن الحديث موضوع) كون الراوي رافضياً، والحديث في فضائل أهل البيت».
قال ابن الجوزي: «ما أحسن قول القائل: إذا رأيتَ الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع. ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة».

قال السيوطي في مقدمته للجامع الكبير ما مختصره: «وكل ما كان في:
1-كتاب الضعفاء للعقيلي.
2-الكامل لابن عدي.
3-التاريخ للخطيب.
4-ولابن عساكر.
5-وللحاكم.
6-الحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
7-التاريخ لابن النجار.
8- والفردوس للديلمي.
فهو ضعيف». يقصد ما تفردوا به.
 

تحذير السلف من الأحاديث الغرائب

قال الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" (ص141): «وأكثر طالبي الحديث في هذا الزمان، يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكَر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء. حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنَباً عنه مُطرحاً. وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلِّهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه. وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين». قلت: فهذا كان في زمن الخطيب، فما بالك بزماننا؟

قال أبو يوسف القاضي (صاحب أي حنيفة) كما في "الكفاية في علم الرواية" (ص142): «من اتبع غريب الحديث كذب. ومن طلب المال بالكيمياء (أي الوهم بإمكانية تحويل التراب لذهب) أفلس. ومن طلب الدين بالكلام (كحال الأشاعرة) تزندق».
وقال أحمد بن حنبل: «شر الحديث: الغرائب التي لا يُعملُ بها ولا يُعتمدُ عليها». وقال: «تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب. ما أقَلَّ الفِقْهَ فيهم». وقال «لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنّها مناكير، وعامّتها عن الضعفاء».
قال عبد الله بن المبارك: «العلم هو الذي يجيئك من ها هنا وها هنا» يعني المشهور.
قال زين العابدين علي بن الحسين: «ليس من العلم ما لا يُعرف، إنّما العلم ما عُرِفَ وتواطأت عليه الألسُن».
قال الإمام مالك: «شرّ العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس».
قال عبد الرزاق: «كنا نرى أن غريب الحديث خير، فإذا هو شر».
قال الأعمش (محدّث الكوفة) عن أهل الحديث: «كانوا يكرهون غريب الحديث وغريب الكلام». ويقول أيوب السختياني بلسانهم: « إنّما نفرّ أو نفرق من تلك الغرائب».
قال زهير بن معاوية: «ينبغي للرجل أن يتوقّى رواية غريب الحديث».
ومن شدة كراهيتهم للغرائب فقد قال خالد بن الحارث: «لو كان في حديث الأشعث شيءٌ غريبٌ، لمحوته».
قال الحافظ ابن رجب: «وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمّون الغريب منه في الجملة».

يقول إمامنا الذهبي في سير الأعلام (2|601): «فبالله عليك، إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر، كانوا يمنعون منه مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد –بل هو غَضٌّ لم يشِب–، فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا، مع طول الأسانيد وكثرة الوهم والغلط؟! فبالحري أن نزجر القوم عنه. فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف. بل يروون –والله– الموضوعات والأباطيل والمستحيل في الأصول والفروع والملاحم والزهد. نسأل الله العافية فمن روى ذلك، مع علمه ببطلانه، وغَرَّ المؤمنين، فهذا ظالمٌ لنفسِهِ جانٍ على السُّنَنِ والآثار، يُستَتاب من ذلك. فإن أناب وأقْصَر، وإلا فهو فاسقٌ، كفى به إثماً أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمِع. وإن هو لم يعلم، فليتورّع وليستعِن بمن يُعينُهُ على تنقية مروياته. نسأل الله العافية. فلقد عَمَّ البلاء، وشمَلت الغفلة، ودخل الدّاخل على المحدّثين الذين يَرْكَنُ إليهِم المسلمون. فلا عتبى على الفقهاء وأهل الكلام!».