عَمْرو بن شُعَيْب و الصَّحيفة الصّادقة

كان رسول الله r قد سمح لعبد الله بن عَمْروِ t (9ق.هـ– 63هـ) بكتابة الحديث، لأنه كان كاتباً مُتقناً. فكتب عنه الكثير، و اشتهرت صحيفة إبن عَمْرو t بالصحيفة الصادقة كما أراد كاتبها أن يسمّيها، لأنه كتبها عن رسول الله r، فهي أصدق ما يروي عنه. و قد رآها مُجاهد بن جبر (21–104هـ) عند عبد الله بن عَمْرو t. فذهب ليتناولها، فقال له: «مـه يا غلام بني مخزوم». فقال مجاهد: «ما كنت تمنعني شيئاً!». فقال: «هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله r ليس بيني و بينه فيها أحد»[1].

و كانت هذه الصحيفة عزيزةً جداً على ابن عمرو حتى قال: «ما يُرغٍبني في الحياة إلا خصلتان: الصادقة و الوهطة. فأمّا الصادقة، فصحيفة كتبتها عن رسول الله r. و أما الوهطة، فأرضٌ تصدّق بها عمرو بن العاص، كان يقوم عليه». روى هذا شريك عن ليث عن مجاهد. و كان عبد الله t يحفظ الصحيفة الصادقة في صندوقٍ له حلق[2]، خِشيةً عليها من الضياع. و قد حفظ هذه الصحيفة أهله من بعده، و يُرجّحُ أن حفيده عمرو بن شُعَيْب بن محمد بن عمرو بن العاص، كان يُحدّث منها.

و قد أشار إبن الأثير إلى أن عدد أحاديث الصحيفة الصادقة نحو الألف حديث[3]، يُريد بذلك كل ما حدّث به عبد الله بن عمرو t. و في ذلك نظر لأن ما صحّ عنه أقلّ من ذلك بكثير. و تمتاز هذه الصحيفة أنها من أوّل ما تمّ تدوينه من الحديث النبوي، و أنها مروية باللفظ ليس بالمعنى. كما أن كل أحاديثها قد سمعها عبد الله من رسول الله r مباشرةً دون إرسال. وقد ذكر الشافعي أن فيها نحو ثلاثين حكماً فقهياً. و الخلاف هنا هو فيما نقله من تلك الصحيفة الصادقة، عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده t عن رسول الله r. و إليك موجزه[4]:

روى أبو داود عن أحمد أن أهل الحديث يتردّدون في باحتجاجهم بعمر بن شعيب. و سبب ترددهم هذا هو أنهم لا يعتبرون إلا الحديث الذي يؤخذ مشافهة. أما الحديث الذي ينقل كتابة فلم يكن يعجبهم رغم أنه عند المتأخرين صار أقوى من المشافهة. و قد صرّح هؤلاء بذلك، فمن هذه الأقوال:

قول يحيى: «إذا حدث عن أبيه عن جده فهو كتاب، و يقول أبي عن جدي، فمن هنا جاء ضعفه، أو نحو هذا القول. فإذا حدث عن ابن المُسيّّب أو سليمان بن يسار أو عُروة، فهو ثقة عنهم أو قريب من هذا».

و قول علي بن المديني عنه: «ما روى عنه أيوب وابن جريج فذاك كله صحيح. وما روى عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده، فهو ضعيف!!». قال الذهبي عن هذا الكلام العجيب: «هذا الكلام قاعِدٌ قائم!». و أعجب من هذا قول يحيى بن معين: «هو ثقة بُلِيَ بكتاب أبيه عن جده!»[5].

قال ابن حبان في كتاب الضعفاء: «إذا روى عن طاووس وابن المسيّب وغيرهما من أبيه فهو ثقة يجوز الاحتجاج به. وإذا روى عن أبيه عن جده، ففيه مناكير كثيرة فلا يجوز عندي الاحتجاج». قلت سنرى في قول أبي زُرعة أن هذه المناكير ليست من عمرو بن شعيب. و قال: «و  إذا روى عن أبيه عن جده، فإن شُعيباً لم يلق عبد الله، فيكون الخبر منقطعاً. و إذا أراد به جده الأدنى فهو محمد و لا صحبة له، فيكون مُرسلاً».

 

فانتقادات المحدثين الأوائل لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تتلخص في ثلاث نقط:

1 –أنه قصد بكلمة جده محمداً التابعي و ليس عبد الله الصحابي، فيكون حديثه مرسلاً.

لكن الذهبي أثبت أن المقصود من كلمة جده أي جدّ أبيه شعيب، و هو عبد الله بن عمر بن العاص الصحابي الشهير الذي فاق أبا هريرة حِفظاً أو كاد. و حديث شعيب كلّه عن جده، لأنه ربِيَ يتيماً في كنف جده، فأخذ حديثه عنه شفاهاً و كتابةً. و هذا التحديث ثابت (أي عن جده) عنه، و أثبته عامة علماء الرجال كالبخاري و أبي داود من المتقدمين، و إبن حجر من المتأخرين[6]. كما سمع عدة صحابة آخرين كابن عمر و ابن عباس ومعاوية –رضي الله عنهم أجمعين–.

أخرج عبد الرزاق في مصنفه[7]: قال أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله r قال: «أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح  فهو لها».

و هذا حديث إسناده صحيح. و أمثلة هذه الأحاديث كثيرة مما ثبت فيها تحديث شعيب عن جده عبد الله، و أشهرها ما أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي في إفساد الحجج، و إسناده صحيح. و قد أثبت الحاكم به صحة سماع شعيب من جده[8]. و أما محمد فلم يذكر له أي حديث يحدّث به، إلا حديثين ذكر ابن حجر أنه لا يعول عليهما. فثبت يقيناً أن الجد هو عبد الله دوماً. قال المِزِّي: «ولم يذكر أحد منهم (أي علماء الحديث) أنه يروي عن أبيه محمد. ولم يذكر أحد لمحمد بن عبد الله –والد شعيب هذا– ترجمة، إلا القليل من المصنفين. فدل ذلك على أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيح متصل إذا صح الإسناد إليه. وأن من ادعى فيه خلاف ذلك، فدعواه مردودة حتى يأتي عليها بدليل صحيح يعارض ما ذكرناه»[9].

2– إن في حديثه عن أبيه عن جده مناكير.

لكن أبا زُرعة أجاب عن ذلك بقوله: «إنما أنكروا عليه لكثرة روايته عن أبيه عن جده. و قالوا إنما سمع أحاديث يسيرة و أخذ صحيفة كانت عنده فرواها. و ما أقلّ ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه من المنكر! و عامة هذه المناكير التي تروى عنه، إنما هي عن المثنى و ابن لهيعة و الضُّعفاء. و هو ثقة في نفسه». فثبت أنه إذا صحّ السند إليه، لم يكن في حديثه مناكير.

2– أنه كان ينقل من صحيفة فروايته وِجَادَة بلا سَماع[10].

قلت هذا كلامٌ ليس عليه دليل. فقد أثبت المحقّقون سماعه من أبيه، و سماع أبيه شعيب من جدّه عبد الله. بل التحديث ثابت في عددٍ من الأحاديث. قال الدارمي: «عمرو بن شعيب ثقة. روى عنه الذين نظروا في الرجال، مثل أيوب و الزٌّهْري و الحكم، و احتجّ أصحابنا بحديثه، و سمع أبوه من عبد الله بن عَمْرو و ابن عمر و ابن عباس». و قال أبو بكر بن زياد النَّيْسابوري: «صحّ سماع عمرو بن شعيب، و صحّ سماع شعيب من جده عبد الله». و قال الدارقطني: «لِعَمْروِ بن شعيب ثلاثة أجداد: الأدنى منهم محمد، و الأوسط عبد الله، و الأعلى عمرو. وقد سمع شعيب من الأدنى محمد، و محمد تابعي. و سمع جده عبد الله. فإذا بيّنه وكشف فهو صحيح حينئذ. و لم يترك حديثه أحدٌ من الأئمة، و لم يسمع من جده عمرو بن العاص».

و قد وَلِد شعيب بن محمد في خلافة علي أو قبل ذلك (أي قبل عام 40هـ). قال الذهبي: «ما علمنا بشعيب بأساً: رَبِيَ يتيماً في حجر جده عبد الله، وسمع منه، وسافر معه. ولعله ولد في خلافة علي أو قبل ذلك». و قد مات عبد الله بن عمرو بن العاص عام 63هـ (و هو الراجح) أو 65هـ أو 69هـ، و عمره 72 سنة. فيكون من ذلك أن شعيباً قد صحبه حوالي ثلاثين سنة.

و لو تأملنا هذه النقطة و قارنّاها بشدّة حفظ عبد الله t بالصحيفة الصادقة، و تقديره الشديد لأهميتها، كما مرّ في أول المقال. و كذلك ما علمنا من علم حفيده شعيب و صحّة روايته عن عدد من الصحابة. فهذا كلّه يؤكد أن من البديهي أن يسعى عبد الله لتحفيظ إبنه تلك الصحيفة و تحديثه بها. و من المستبعد أن يحدّث الناس من تلك الصحيفة و يفخر بها، و لا يحدث بها حفيده الذي قارب الثلاثين من عمره، مع حفظٍ و نباهة. و قد صرّح في بعض أحاديثه بالسماع في بعض الأحاديث كما قد سلف. و لم يثبت عنه أي حديث منكر إذا صحّ النقل إليه. فالذي نخلص إليه أنه جدّه قد حدّثه بالصحيفة الصادقة، و حديثه صحيح متصل.

 

توثيق العلماء لعمرو بن شعيب و أبيه:

أما عمرو بن شعيب نفسه، فالأئمة متفقين على حفظه و على توثيقه. قال الأوزاعي: «ما أدركت قُرَشيّاً أكمل من عمرو بن شعيب». و قال علي بن المَديْني: «سمع شعيب من عبد الله بن عمرو، وسمع منه ابنه عمرو بن شعيب». و قال كذلك: «عمرو بن شعيب عندنا ثقة، و كتابه صحيح». وقال إسحاق بن راهويه: «إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثقة، فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر». يشبه هذا بسلسلة الذهب، و هذا مطلق التوثيق.

وقال يعقوب بن شيبة: «ما رأيت أحداً من أصحابنا ممن ينظر في الحديث و ينتقي الرجال، يقول في عمرو بن شعيب شيئاً. و حديثه عندهم صحيح. و هو ثقةٌ ثبت. و الأحاديث التي أنكروا من حديثه، إنما هي لقومٍ ضُعفاء رووها عنه, و ما روى عنه الثقات فصحيح».

و قال عنه العجْلي و النسائي: ثقة. و نقل الترمذي عن شيخه البخاري: «رأيت أحمد (بن حنبل) و علياً (بن المديني) و إسحاق (بن راهويه) و أبا عبيد و عامة أصحابنا، يحتجّون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ما تركه أحد من المسلمين. فمن الناس بعدهم؟». و استنكر الذهبي هذا القول لأن البخاري لم يخرج له في الصحيح، لكنه أكد أنه قد احتج به أرباب السنن الأربعة وابن خُزَيمة وابن حِبَّان في بعض الصور و الحاكم.

قلت: القول ثابتٌ عن البخاري، و قد كتب قريباً منه في تاريخه إذ قال: «رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله والحُمَيْدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه»[11]. و قد أخرج أبو حنيفة و الشافعي و أحمد في مسانيدهم لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، و كذلك مالك في الموطّأ. و حديثه حُجّةٌ عند الأئمة الأربعة و جمهور الفقهاء. أما البخاري فلم يخرج له لأنه يعتبر حديثه في مرتبة الحسن الذي هو دون شرطه في صحيحه. و قد أخرج له في جزء القراءة مُحتجّاً به كما نصّ إبن حجر[12].

قال الزّركشي: «و قد رد أبو العباس ابن تيمية على ابن الصلاح، ما اختار في التعليق. و قال: بل عادة البخاري انه إذا جزم بالمعلق، فقال قال رسول الله r، فهو صحيحٌ عنده. و إنه إذا لم يجزم به كقوله: و يُذكر عن بُهْزِ بن حكيم[13]، كان ذاك عنده حسناً لا يبلغ مبلغ الصحيح. و لكن ليس بضعيف متروك، بل هو حسنٌ يُستشهد به و يُحتجّ به إذا لم يخالف الصحيح. و لكن ليس بالصحيح المشهور»[14]. قلت و هذا يؤيد أعلاه لأن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أقوى من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده[15].

 

و قد لخص شيخ الإسلام إبن تيمية هذه  المسألة فقال:

«وقد رُوي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي. فقال له بعض الناس إن رسول الله يتكلم فى الغضب فلا تكتب كلما تسمع. فسأل النبي r عن ذلك فقال: "إكتب فوا الذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق". يعنى شفتيه الكريمتين. و قد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله r أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده و يعي بقلبه، و كنت أعي بقلبي و لا اكتب بيدي"[16].

وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي. و بهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده، و قالوا هي نسخة، و شعيب هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. و قالوا عن جده الأدنى محمد، فهو مرسل لم يدرك النبي، و إن عنى جده الأعلى فهو منقطع فان شعيباً لم يدركه.

و أما أئمة الإسلام و جمهور العلماء، فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صحّ النقل إليه مثل مالك بن أنس و سفيان بن عيينة و نحوهما، و مثل الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه و غيرهم. قالوا الجد هو عبد الله، فانه يجيء مسمّى و محمد أدركه. قالوا و إذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي كان هذا أوكد لها و أدلّ على صِحّتها. و لهذا كان في نُسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامّة علماء الإسلام»[17].

و الذي نرتاح إليه أن ما وَسِعَ جمهور العلماء و الأئمة الأربعة يسَعنا أيضاً. و لكننا لا نجعله في مرتبة الصحيح الذي لا خلاف فيه، بل هو في أعلى مراتب الحسن كما نصّ على ذلك الإمام الذهبي، أو في مرتبة القويّ بين الحسن و الصحيح كما نصّ على ذلك الحافظ إبن حجر. و الله أعلم بالصواب.



[1] – إنظر طبقات بن سعد (2\373)، و تقييد العلم (ص84).

[2] – مسند أحمد (10\171)، و كتاب العلم للمقدسي (ص30) بإسنادٍ صحيح.

[3] – أسد الغابة (3\233).

[4] –معظم الأقوال نقلها الإمام شمس الدين  الذهبي في هذه المسألة في ترجمته لعمرو بن شعيب في سير أعلام النبلاء (5\166)، و كذلك الحافظ إبن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (8\43).

[5] – إن وجه الغرابة هنا في قول إبن معين أنه يعتبر الحديث المكتوب بليّة، مع أنه أوكد و أوثق.

[6] – التاريخ الكبير (4\218)، و تقريب التهذيب (1\267).

[7] – مصنف عبد الرزاق (6\257).

[8] – المستدرك (2\74) و السنن الكبرى (5\167) و سنن الدارقطني (3\50).

[9] – تهذيب الكمال (12\535).

[10] – المقصود من الوِجادة أنها صحيفة قد وجدها فنقل عنها دون ضبط. و الخوف هنا من حصول تصحيف. و معلومٌ شدة كراهية المحدّثين الأوائل للكتابة لأنهم كانوا يَرون وجوب السماع من مشايخ حتى لو رُوِيُ الحديث بالمعنى. ثم زالت هذه الكراهة تدريجيّاً، لذلك نجد أكثر المحدثين المتأخرين –إن لم يكن كلهم– يحتجون بحديثه.

[11] – التاريخ الكبير(6\342).

[12] – تهذيب التهذيب (8\48).

[13] – إنظر صحيح البخاري (1\107).

[14] – كتاب النكت على ابن الصلاح للزركشي (1\239).

[15] – قال ابن أبي حاتم سئل أبي أيما أحب إليك هو أو بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فقال عمرو أحب إلي.

[16] – راجع طرق هذا القول و الحديث الذي قبله في شرح معاني الآثار (4\319)، و المحدث الفاصل (1\364).

[17] – مجموع الفتاوى (18\8).