مسلم بن الحجاج هو أول من صنف كتاباً في الصحيح، وليس البخاري كما يُشاع

 

من أول من ألف كتابا في صحيح السنة؟ أول كتاب كان صحيح مسلم، وهذا كان واضحا في انتقاد أبي زرعة الرازي له الذي استغرب الفكرة. واعتذر مسلم بأنه قصد بكتابه محاولة جمع كل ما أجمعوا على صحته وليس كل ما هو صحيح. وتقريبا 99% من صحيح مسلم مجمع على صحته.

البعض يسأل لماذا الإمام مسلم لم يرو عن البخاري في صحيحه رغم أنه كان شديد التعظيم له؟ الجواب ببساطة لأنه أنهى صحيحه سنة 242 هـ (كل التواريخ بالمقال هي بالهجري) بينما لقاءه بالأول بالبخاري كان في سنة 250 هـ في نيسابور. أما في كتبه الأخرى فقد نقل عنه.

وهل البخاري نقل عن مسلم؟ الجواب: لا، لأن البخاري أكبر سنا من مسلم، وأسانيده أعلى (بمعنى رجالها أقل)، لذلك لا يعقل أن ينزل بالإسناد وينقل عن مسلم.

متى ألف البخاري صحيحه؟ غادر نيسابور بعد الفتنة مع الذهلي آخر سنة 252، وتوجه إلى فربر. وحدّث بالصحيح للمرة الأولى في قرية فِرَبْر (قال الحازمي: قرية من نواحي سمرقند، وقال ياقوت بُليدةٌ بين جيحون و بخارى. وهي في تركمانستان اليوم). ذكر ابن نقطة في التقييد ص126 قال الفربري: سمعت الجامع الصحيح من أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بفربر في ثلاث سنين، في سنة 253، وسنة 254، وسنة 255 (وهذه إما ثلاث مرات وإما أنها مرة واحدة ممتدة أي سماع متقطع، وهو الأرجح). ثم خرج البخاري إلى مدينة "نسف" جنوب بخارى (تسمى اليوم قرشي). فحدث عنه هناك حماد بن شاكر (وعنه منصور بن محمد النسفي) و إبراهيم بن معقل النسَفي (وجميع هؤلاء روايتهم ناقصة عن رواية الفربري). هناك استدعاه أمير بخارى في 20 رمضان قبل أن ينتهي، وطلب منه أن يحدث ولده ولما رفض، طرده إلى سمرقند وتوفي ليلة الفطر في قرية خرتنك 256. أي أن لصحيح البخاري روايتان فقط (إخراجتان).

صحيح مسلم سنة 242

صحيح البخاري سنة 253

كيف عرفنا تاريخ بداية وانتهاء مسلم من تأليف صحيحه؟ العبارة التي نقلها الذهبي بدقة هي: "قال أحمد بن سلمة: كنتُ مع مسلم بن الحجاج في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة" (أقول هذا لأن العراقي قد تصحّفت عليه العبارة). وقال أحمد بن بالويه العفصي: «سمعت أحمد بن سلمة يقول: صحبت مسلم بن الحجاج من سنة سبع وعشرين إلى أن دفنته».

أحمد بن سلمة ابتدأ بصحبة مسلم سنة 227 هـ وبعد 15 سنة انتهى تصنيف الصحيح أي أتمه سنة 242 هـ. وأما لقاءه بالبخاري فكان سنة 250 هـ.

أما آخر مرة حدث بها بصحيحه فهي رواية ابن سفيان سنة 257. ثم توفي مسلم سنة 261.

والآن نناقش الاعتراضات:

في سؤالات البرذعي لأبي زرعة ص37: شهدت أبا زُرْعَة ذكر "كتاب الصحيح"، الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الفضل الصائغ (المعروف بفضلك) على مثاله، فقال لي أبو زُرْعَة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شَيْئًا يتشوفون به، ألفوا كتابًا لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها

وأتاه ذات يوم، وأنا شاهد، رجل بـ "كتاب الصحيح"، من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زُرْعَة: ما أبعد هذا من الصحيح، يُدخل في كتابه أسباط بن نصر!

ثم رأى في الكتاب قَطَن بن نُسَير، فقال لي: وهذا أطم من الأول، قَطَن بن نُسَير وصل أحاديث عن ثابت، جعلها عن أَنس.

ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه "الصحيح".

قال لي أبو زُرْعَة: ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى، وأشار أبو زُرْعَة بيده إلى لسانه، كأنه يقول: الكذب.

ثم قال لي: يحدث عن أمثال هؤلاء، ويترك عن مُحَمَّد بن عَجْلاَن (خرج له مسلم 13 حديثا بالشواهد) ونظرائه، ويُطَرِّق لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتج عليهم به: ليس هذا في " كتاب الصحيح "، ورأيته يذم وضع هذا الكتاب، ويؤنبه.

فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زُرْعَة عليه روايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسَير، وأحمد بن عيسى، فقال لي مسلم: إنما قلتُ صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط، وقَطَن، وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.

وقَدِم مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عَبد الله مُحَمَّد بن مسلم بن وارة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مما قاله أبو زُرْعَة: إن هذا يطرق لأهل البدع علينا، فاعتذر إليه مسلم، وقال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي، وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف، ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى مُحَمَّد بن مسلم، فقبل عذره، وحدثه.

انتهت القصة. وفيها عدة عبرات منها:

1- مسلم كان شابا مغمورا لما ألّف الصحيح، ولهذا قال أبو زرعة عبارته. وفعلا كان أقل من 40 سنة.

2- مسلم لم يأت به بصحيحه ليأخذ منه إجازة وإنما الكتاب شاع وانتشر وصار الناس يسألون أبا زرعة عنه، ولما أحضر رجل له نسخة منه نظر فيه نظرة سريعة وأعطى رأيا سيئا وحذر منه، ثم البرذعي لما سافر لنيسابور التقى بمسلم وبرر مسلم سبب صنيعه.

3- الصحيح اشتهر خارج نيسابور دون أن يعرضه مسلم على أبي زرعة، بل حتى لما سمع بانتقاد أبي زرعة عليه لم يسافر إلى الري ليعذر إليه مباشرة.

4- والأهم أن أبو زرعة في سعة اطلاعه لم يسمع بأن أحدا جمع الحديث الصحيح في كتاب قبل مسلم، ولهذا انتقده على هذا وقال أنه ألف كتابا لم يسبق إليه لتكون له الزعامة.

5- من الواضح للعيان أن البخاري لم يكن قد حدث بصحيحه وإلا كان انتقاده لمسلم بلا معنى، بل لم يكن عمل مسلم يعني له الشهرة لأن تلك الفكرة يفترض أنها كانت مطروقة.

ومما أفادني به الأخ أحمد الأقطش أن صحيح البخاري لم يدخل إلى نيسابور في حياة الإمام مسلم (ت261)، ومما يدل على ذلك قول الحافظ أبو علي النيسابوري (ت349): «ما تحت أديم السماء أَصَحُّ مِن كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث». قال الذهبي: «لَعَلَّ أبا علي ما وَصَلَ إليه صحيح البخاري». وهو كما قال.

وأزيد: لو كان الإمام البخاري قد أكمل كتابة صحيحه قبل زيارته لنيسابور، لتزاحم عليه علماء الحديث في تلك المدينة العريقة، ولرووا عنه مباشرة. إلا أن هذا لم يحدث، حيث بدأ التحديث بالصحيح في قرية صغيرة نائية لم تكن معروفة على نطاق واسع. لما البخاري توجه لمدينة نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركبانًا على الخيل (عدا عن المشاة) مع الولاة والعلماء قبل المدينة ب100 كم من شدة احتفالهم به. فلو كان قد عرفوا أن عنده كتاب الجامع الصحيح لتقاطر هؤلاء الآلاف المؤلفة على سماع ذلك الكتاب منه ولسار ذكره في الشرق والغرب. وأما عن فتنة اللفظ فلم تحدث إلا بعد سنتين من هذا. وخلال تلك السنتين لم يسمع أحد بهذا الكتاب قط. الأمر واضح.

ولا يوجد محدث يرى أن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري، وقد يفضل البعض التعامل مع صحيح مسلم بسبب ترتيبه ولا يعني أنه أصح. وأما كلام ابن عقدة فهو عن كتاب "الكنى" وليس عن "الصحيح".

اعتراضات أخرى:

*) بالنسبة للبخاري: قال ابو نصر الكلاباذي كان سماع الفربري بهذا الكتاب من البخاري مرتين بفربر في سنة 248 ومرة ببخارى. وجاء في اسناد ابو محمد عبد الله بن احمد بن حمويه السرخسي لصحيح البخاري وسماع الفربري لهذا الكتاب من البخاري مرتين: مرة بفربر في سنة 248 ومرة ببخارى سنة 252.

الجواب: الكلاباذي (ت 398 هـ) أخطأ بهذا الزعم وتبعه البعض على هذا الزعم، ولكنه مردود عليه. والصحيح ما قاله الفربري نفسه: حدثنا البخاري سنة 253، كذا رواه عنه أربعة من تلاميذه:

- أبو زيد المروزي

- ابن السكن

- الكشاني

- أبو أحمد الجرجاني

      فروايتهم مقدمة على مرسل الكلاباذي. لا سيما أن البخاري كان في بغداد عام 248 هـ، ثم انتقل إلى نيسابور بين عامي 250 هـ و252 هـ..

*) مقولة أبي أحمد الحاكم.

قالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم في الكنى: "وَمن تَأمل كتاب مُسلم في الْأَسْمَاء والكنى علم أَنه مَنْقُول من كتاب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَا يزِيد عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا مَا يسهل عده وتجلد في نَقله حق الجلادة إِذْ لم ينْسبهُ إِلَى قَائِله. وكتاب محمد بْن إِسْمَاعِيل فِي التاريخ كتابٌ لم يُسْبَق إِلَيْهِ. وَمن ألف بعده شَيْئا من التَّارِيخ منهم من نَسَبَه إلى نفسه مثل أَبِي زُرْعَة، وأبي حاتم، ومُسلْمِ. ومنهُمُ من حكاه عَنْهُ. فاللَّه يرحمه، فإنّه الّذي أصّل الأصُول".

الجواب: من الواضح أن كلام الحاكم هو مقارنة كتاب التاريخ للبخاري مع كتاب مسلم في الأسماء والكنى، وليس مقارنة بين الصحيحين. وسأوضح أكثر أن ما فعله مسلم أيضا ليس فيه ما يعيبه.

وقد قال أبو أحمد الحاكم مقولة مشابهة: "كنت بالري وهم يقرؤن على ابن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل، فقلت لابن عدويه الوراق: هذه ضحكة، أراكم تقرؤن كتاب التاريخ للبخاري على شيخكم على الوجه الذي نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم.

فقال يا أبا أحمد. إن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما تاريخ البخاري. قالا: هذا علم لا يستغنى عنه. ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا. فاقعدا عبد الرحمن يسألهما عن رجل بعد رجل وزادا فيه ونقصا.

أقول: كون ابن أبي حاتم ومسلم وابن حبان وغيرهم قد استفادوا من تاريخ البخاري، لا يعني أن نسمي هذا سرقة. لأنه في مسألة رجال الحديث أنت مضطر للنقل والتقليد. خاصة أن هؤلاء لم يقتصروا على النقل الحرفي، بل قاموا بالترتيب، والإضافة، والحذف.

وقال أبو أحمد مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكَرَابِيسِي: رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل، فإنه الذي ألف الأصول، وبين للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذ من كتابه: كمسلم بن الحجاج، فرق كتابه في كتبه، وتجلد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إلى قائله، ولعل من ينظر في تصانيفه لا يقع فيها ما يزيد إلا ما يسهل على من يعده عدا، ومنهم من أخذ كتابه فنقله بعينه إلى نفسه، كأبي زرعة، وأبي حاتم، فإن عاند الحق معاند فيما ذكرت فليس يخفي صورة ذلك على ذوي الألباب.

وهذه العبارة نفسها مع اختلاف طفيف في الألفاظ. انظر الإرشاد للخليلي 3|962. لا دخل لهذه المقولة بالصحيح رغم ما فيها من مبالغة ظاهرة.

وقال الخطيب: ومن العَجَبِ: أن ابن أبي حاتمٍ أغار على كتابِ البخاريِّ، ونقلَهُ إلى كتابِهِ في الجَرْح والتعديل، وعمَدَ إلى ما تضمَّن من الأسماءِ، فسأل عنها أباه وأبا زُرْعة، ودوَّن عنهما الجوابَ في ذلك، ثم جمَعَ الأوهامَ المأخوذَةَ على البخاريِّ، وذكَرَهَا مِنْ غيرِ أن يقدِّم ما يُقِيمُ به العُذْرَ لنفسِهِ عند العلماء؛ في أنَّ قَصْدَهُ بتدوينِ تلك الأوهامِ بيانُ الصوابِ لمن وقَعَتْ إليه، دون الانتقاصِ والعَيْبِ لمن حُفِظَتْ عليه!

المقصود أن الواضح هو أن الكلام عن كتاب التاريخ للبخاري وليس صحيح البخاري. وأرى أن هذا يكفي لدحض تلك الشبهة بشكل تام.

*) قيل أن الدارقطني قال: لولا البخاري لما جاء مسلم ولا راح. وقيل أنه قال " إنما أخذ مسلم كتاب البخاري، فعمل فيه مستخرجا وزاد فيه أحاديث.

الجواب أين نجد كلام الدارقطني هذا؟ لم أجده في أي من كتبه (ولم يجده أحد من المحققين كذلك). وإنما وجدت مقولته الأولى مبتورة في تاريخ بغداد دون معرفة سياقها. ويبدو أن كلامه عن كتاب الكنى المأخوذ عن تاريخ البخاري لا عن كتاب الصحيح.

ودعوى أن صحيح مسلم مسروق من صحيح البخاري، أحسب أن هذا باطل لكل من اطلع على الصحيحين. يكفي أن تقارن بابًا واحدًا بين الكتابين لتتبين الفوارق بين أسلوب الإمام البخاري والإمام مسلم...

ولذلك فإن دعوى أن مسلم أخذ كتاب البخاري ونسبه إلى نفسه دعوى باطلة. كل واحد له شيوخ وأسانيد غير الآخر. والبخاري له رجال يروي عنهم ويتجنبهم مسلم (مثل عكرمة) والعكس صحيح، هناك رجال عند مسلم يتجنبهم البخاري. وهناك أحاديث يصححها مسلم مثل حديث التربة بينما البخاري يراه عن كعب الأحبار (أي من الإسرائيليات). ودعوى السرقة لا تقوم على دليل، بل هي باطلة عند التحقيق.

*) هل عرض البخاري كتابه على أئمة الحديث في العراق؟

قال مسلمة في "الصلة": «سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت العقيلي يقول: لما ألّفَ البخاري كتابه "الصحيح"، عرضه على ابن المديني 234هـ ويحيى بن معين 233هـ وأحمد بن حنبل 241هـ وغيرهم، فامتحنوه. وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"».

الجواب: هذا لا يصحّ فإن في إسناده رجلاً مجهولاً. وقد ضعّف العقيلي عدداً من أحاديث صحيح البخاري. مثل حديث همام بن يحيى في الأبرص. وجميع هؤلاء توفي قبل أن ينهي البخاري تأليف صحيحه. ولا يعرف أحد من أئمة الحديث قط، ممكن كانوا مشايخ للبخاري أثنى على صحيح البخاري، أبدا، رغم أنه كتاب رائع مستحق لكل ثناء.

والسبب بسيط واضح، وهو أنه ألفه بآخر حياته بعد وفاة كل هؤلاء، فلا نجد منهم ثناء عليه وهم لم يطلعوا عليه. وأول سماع مؤكد لهذا الكتاب ما قاله الفربري: حدثنا البخاري سنة 253. وهذا بقرية نائية بأقصى مشارق الأرض فلم يشتهر بحياته. وقد توفي البخاري 256هـ ولم يتم التحديثة الأخيرة.

العودة للصفحة