أماكن انتشار القراءات اليوم

رواية حفص الدوري عن أبي عمرو البصري: هي الرواية الأكثر ذيوعًا في الصومال، والسودان، وتشاد، ونيجيريا، وأواسط إفريقية بصفة عامة.


رواية ورش المصري عن نافع المدني: وهي الرواية المنتشرة في بلاد المغرب العربي (الجزائر والمغرب وموريتانيا)، وفي غرب إفريقيا (السنغال والنيجر ومالي ونيجيريا وغيرها) وإلى حد ما بعض نواحي مصر وليبيا وتشاد وجنوب وغرب تونس. وهي الرواية التي كان لَها الانتشار في القرون الأولى في مصر، ومنها انتشرت إلى تلك البلدان.


رواية قالون عن نافع: شائعة في ليبيا (القراءة الرسمية) وفي أكثر تونس.


رواية حفص عن عاصم: كانت رواية نادرة الوجود حتى نشرها الأتراك الأحناف في آخر العهد العثماني. وقد انتشرت في جميع المشرق وفي الجزيرة ومصر. والحنفية يتعصبون لرواية عاصم لأن أبا حنيفة كوفي أخذ عن عاصم.

 

 

تاريخ انتشار القراءات

انتشار القراءات في الأقطار القديمة

الشام
بعث عمر بن الخطاب عدداً من خيرة الصحابة لتعليم أهل الأمصار. فممن بعث: أبا موسى الأشعري إلى البصرة، وعبد الله بن مسعود الهذلي إلى الكوفة، وأبا الدرداء الخزرجي إلى الشام. وكان لهؤلاء أثراً بالغاً في الفقه والقراءات في تلك الأمصار. وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي الدرداء، إلى أن بعث إليهم عثمان –بعد انتهاء جمع القرآن– بالمصحف الشامي مع المغيرة بن أبي شهاب. فأقبل يذكر الحافظ ابن عساكر (1|319) عنهم أنه «لما قدم كتاب عثمان إلى أهل الشام في القراءة، قالوا سمعنا وأطعنا وما اختلف في ذلك اثنان. انتهوا إلى ما أجمعت عليه الأمة، وعرفوا فضله». وقد وقع بعض التوقف في شأن بعض القراءات المرسومة في المصحف العثماني من أبي الدرداء حين وصل المصحف إلى دمشق، فقال في قوله تعالى في سورة الليل {وما خلق الذكر والأنثى}: «وهؤلاء يريدونني أن أقرأ {وما خلق} فلا أتابعهم» وكان يقرؤها هكذا {والذكر والأنثى}. (انظر شرح ابن حجر 10|335).

على أن قراء الشام (وعلى رأسهم شيخهم ابن عامر، فمن جاء بعده) أخذوا بقراءة عثمان، وتفانوا فيها، حتى كانت مصدر فخر لهم. ويذكر ابن الجزري في غاية النهاية (2|360 #3806) عن أبي زرعة الدمشقي: «كان القراء بدمشق يحكمون القراءة الشامية العثمانية ويضبطونها: هشام وابن ذكوان والوليد بن عتبة (176-240)». مع أن قراءة ابن عامر قد تكون قد تأثرت بصحابة آخرين كأبي الدرداء وفضالة وواثلة وغيرهم، وربما بأداء نافع. لكن الغالب عليها –خاصة في الفرش– هي قراءة عثمان. قال ابن الجزري في النشر في القراءات العشر (2|264): «كان الناس بدمشق وسائر بلاد الشام حتى الجزيرة الفراتية وأعمالها لا يأخذون إلا بقراءة ابن عامر، وما زال الأمر كذلك إلى حدود الخمسمئة». وفي عام 500هـ أتى مقرئ حاذق من العراق بقراءة الدوري عن أبي عمر (التي كانت طاغية في العالم الإسلامي) فمالوا إليها وانتشرت بينهم. إلى أن جاء الأتراك وفرضوا قراءة حفص عن عاصم، تعصباً لمذهب أبي حنيفة، كما سيأتي تفصيله.

 

البصرة

استقر في البصرة عدد كبير من الصحابة ممن علموا الناس القرآن، أشهرهم أبو موسى الأشعري t. كما أن علماء البصرة يقتدون بعلماء الحجاز، فانتشرت القراءات الحجازية كذلك. وكان الناس على رأس المئتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو (شبه حجازية) ويعقوب (بصرية خالصة). ثم غلبت قراءة يعقوب في القرن الخامس الهجري. إلا أن قراءة أبا عمرو قد رجعت للبصرة وسادت في معظم العالم الإسلامي، إلى أن قضى عليها الأتراك. ويمكن الاعتراف ههنا لعلماء البصرة وقرائهم في هذا المجال بالريادة والسبق المطلق (سواء على الصعيد الرسمي أو الصعيد الفردي) في تسجيل اللمسات الأولى في معظم علوم القراءة، وخصوصا ما يتعلق منها بطريقة الكتابة وضبط المصحف ابتداء من أبي الأسود الدؤلي (ت 69هـ، رائد علم النحو)، ومرورا بنصر بن عاصم الليثي (ت 90هـ) ويحيى بن يعمر العدواني (الذين قاما بتشكيل المصحف بأمر من الحجاج)، وانتهاء إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ، أول من صنف في "النقط" ورسمه في كتاب، وذكر علله).

 

الكوفة

تعلم أهل الكوفة الفقه والقرآن من عبد الله بن مسعود الهذلي. وكان ابن مسعود من الصحابة الأوائل العارفين بالقرآن، لكنه كان يقرأ بحرف هذيل وليس بحرف قريش. كما أن بعض حروفه قد نسخت بالعرضة الأخيرة، وبقي عليها. ولذلك رفض الرجوع عن مصحفه إلى المصحف الذي جمعه زيد بن ثابت وأمر عثمان بإرساله مع أبي عبد الرحمن السلمي. على أنه رجع إلى المدينة قبل وفاته، واصطلح مع عثمان، ورجع لرأي الجماعة لما تبين له الحق. لكن قراءته بقيت مسيطرة على الكوفة. ذكر ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات (ص67): قال سليمان الأعمش (ت 148): «أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد فيهم إلا كقراءة عبد الله فيكم، ما يقرأ بها إلا الرجل والرجلان».

وقد بذل أبو عبد الرحمن قصارى جهده لنشر قراءة زيد المطابقة لمصحف عثمان الذي أرسله معه إلى الكوفة. ومما شجع أهل الكوفة على قبول تلك القراءة كونها مطابقة لقراءة علي بن أبي طالب، الذي عامة أهل الكوفة من شيعته. ثم جاء الحجاج في عهد عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، فبذل قصارى جهده في تعميم المصحف العثماني على سائر الأمصار. وعمل على استئصال شأفة مصحف ابن مسعود بكل سبيل، حتى أنه نعت في خطاب له الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بـ"عبد هذيل" وقال (كما في سنن أبي داود 2|514): «يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله على نبيه عليه السلام». ولا شك أن الحجاج كان مخطئاً خطأً فادحاً في دعواه أن قراءة ابن مسعود ليست من عند الله. بل هي كذلك، لكن بعض حروفها قد نسخت في العرضة الأخيرة.

وكان والد الحجاج مدرساً للقرآن، وكان الحجاج كذلك في مطمع شبابه مدرّساً للقرآن، ثم عمل بالجند لكنه بقي شديد التعظيم للقرآن ولأهل القرآن. قال ابن كثير: «وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيراً». وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال‏:‏ «ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن، وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة‏:‏ "اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل"‏».‏ وكان بليغاً من أفصح الناس حتى قال أبو عمرو بن العلاء (النحوي المشهور)‏:‏ «ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن وكان الحسن (البصري) أفصح»‏.‏ وكان متقناً للتلاوة حتى قال ابن عوف‏:‏ «كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ عرفت أنه طالما درس القرآن‏». وقد كانت لأبي جعفر -شيخ نافع- رواية عن كل من مروان والحجاج. وذكر الذهبي في معرفة القراء الكبار (1|91): أن المفسر المدني المشهور عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: «كنا نقرأ على أبي جعفر القارئ، وكان نافع يأتيه فيقول: يا أبا جعفر، ممن أخذت حرف كذا وكذا؟ فيقول: "من رجل قارئ من مروان بن الحكم"، ثم يقول: ممن أخذت حرف كذا وكذا؟ فيقول: "من رجل قارئ من الحجاج بن يوسف"، فلما رأى ذلك نافع تتبع القراءة يطلبها». فهذا مقرئ أهل المدينة في أيام الصحابة، يأخذ بقراءة الحجاج ويعلّمها، وهو مما يدل على إتقان الحجاج للقرآن. والذي تجدر ملاحظته هنا أن الحجاج حجازي، وكان متبعاً للهجة الحجاز التي قرأ بها عامة الصحابة من المهاجرين والأنصار. ولذلك كان شديد التعظيم لقراءة عثمان بن عفان وهي موافقة لقراءة علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما). وكانت قراءات الكوفة ترجع في معظمها إلى رجلين: علي بن أبي طالب القرشي، وعبد الله بن مسعود الهذلي. ومع أن هذيل كانت تقطن الحجاز فقد كانت لهجتها غريبة عليه، قريبة جداً من لغة بني تميم النجدية. والحجاج لم يكن يرى صحة قراءة ابن مسعود، لذلك بذلك جهداً بالغاً في نشر قراءة قريش.

وقد أنشأ الحجاج في البصرة لجنة خاصة من القراء، لمتابعة هذه القضية وتقطيع كل مصحف يجدوه مخالفا لمصحف عثمان، على أن يعطوا صاحبه ستين درهما تعويضاً (انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 37). على أن العديد من العلماء قد أثنوا على الحجاج فيما فعل. فيقول الإمام أبو بكر الباقلاني في نكت الانتصار (ص382) في تقويم موقفه هذا: «وقد أصاب الحجاج، وتوعد من يقرأ بما ينسب إلى عبد الله مما لم يثبت ولم تقم به حجة، فيعترض به على مصحف عثمان الذي ثبت عليه الإجماع». وبالغ الحجاج فلم يقبل حتى بقراءة ابن مسعود بغير مخالفة مصحف عثمان. لأن القرآن نزل بلغة قريش، وقراءة ابن مسعود بلغة هذيل. وقد غفل الحجاج عن أن القرآن قد نزل على سبعة ألسن، فمن هنا كان نيله من ابن مسعود وقراءته "وكان يعاقب عليها" (التمهيد لابن عبد البر8|298). وكان ذلك مما اضطر بعض أصحاب عبد الله إلى إخفاء مصاحفهم ودفنها زمن الحجاج كما فعل الحارث بن سويد التيمي. ذكره الزمخشري في تفسير سورة الفتح من الكشاف (3|540).

والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً ولا مُشكّلاً. فأمر  الخليفةُ عبد الملك الحجاجَ أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاجُ رجلينَ لهذا هما: نصر بن عاصم و يحيى بن يعمر و هما تلميذي أبي الأسْود الدؤلي (وكان هذا يقرأ بقراءة علي). بمعنى أن المصحف صار لأول مرة منقطاً ومشكلاً وفقاً لقراءة قريش (قراءة علي وعثمان، وهي موافقة لقراءة زيد بن ثابت الأنصاري كذلك). ولعل الواحد منا يتخيل أن هذا سيجعل قراءة قريش هي الغالبة، لكن الذي حدث أن قراء الكوفة مثل عاصم والأعمش قد نشروا قراءة هذيل نكاية بالحجاج فقط. فيذكر عاصم بن بهدلة أنه سمع الحجاج يقول‏:‏ «لا أجد أحدًا يقرأ علي قراءة ابن أم عبد -يعني ابن مسعود- إلا ضربت عنقه»... فذكر ذلك عند الأعمش‏.‏ فقال‏:‏ «وأنا سمعته يقول، فقلت في نفسي: "لأقرأنها على رغم أنفك"»‏.‏ قال ابن كثير: «وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه، والله أعلم»‏.‏

وقبل أن نلوم الحجاج في تفضيله للغة قريش، فله سلف في ذلك. فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول لابن مسعود‏:‏ «أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل»‏. وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال‏:‏ «إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد‏:‏ «إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم». وكذلك قوله تعالى في القرآن: ‏{‏‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏} ‏[‏إبراهيم‏:4‏]، يدل على ذلك، فإن قومه هم قريش، كما قال: {‏‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ‏} [‏الأنعام‏:‏66‏]. مع أنه لا يخفى على عمر ولا على عثمان قضية اختلاف القراءات. فليس إنكارهما على ابن مسعود لأنهما ينكران قراءته، لكنهما يريان أن الأولى تعليم الناس قراءة قريش. قال أبو شامة: «ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما نزل بلسان قريش، إن ذلك كان أول نزوله ثم إن الله تعالى سهله على الناس. فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين. فأما من أراد قراءته من غير العرب، فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى. وعلى هذا يُحمل ما كتب عمر إلى ابن مسعود، لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير. فإذا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبي r. وأما العربي المجبول على لغته، فلو كلف قراءته قريش، لعسر عليه التحول، مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته».

فلذلك عندما جمع عثمان المصاحف أرسل عبد الرحمن السلمي مع مصحف الكوفة ليعلم الناس قراءة قريش فبقي يعلم إلى وفاته في أيام الحجاج، ومعلوم أنه قد قرأ على علي بن أبي طالب، وقد أخذ منه عاصم، لكن كراهية الكوفيين السياسية للحجاج دفعتهم إلى تقديم قراءة ابن مسعود كيداً للحجاج. ومن المؤسف أن تدخل السياسية في مسألة القراءات. كما روي عن الإمام مالك أنه كان يكره القراءة بالنبر (أي بتحقيق الهمز)، لأن رسول الله r لم تكن لغته الهمز، أي لم يكن يظهر الهمز في الكلمات المهموزة مثل: مومن، ياجوج وماجوج، الذيب. وهكذا كانت لغة عامة الحجازيين بما فيهم الأنصار. ففي "المصباح المنير": «و[الرأس]: مهموز في أكثر لغاتهم، إلاَّ بني تميم، فإنَّهم يتركون الهمز لزوماً». جاء في "المدونة": «باب: الصلاة خلف أهل الصلاح وأهل البدع وإمامة الرجل في داره وإمامة من لا يحسن القرآن: ... وسئل مالك عمن صلى خلف رجل يقرأ بقراءة ابن مسعود؟ قال: يخرج ويدعه ولا يأتم به». فهذا الإمام مالك كذلك وافق الحجاج في اختياره.

وأكثر ما يتحسر عليه المرء هو ضياع النسخ الأولى من المصحف المُشكّل، التي يُعتقد أنها موضوعة على قراءة قريش، قراءة علي وعثمان رضي الله عنهم. ولا أعلم في حد علمي أحداً من الباحثين بحث في هذه المخطوطات القديمة، والله أعلم.

وبالرغم من كل تلك الجهود، فإن قراءة ابن مسعود بقيت بالكوفة. ومع أن قراءة عثمان التي حمل عاتق نشرها الحجاج كانت مطابقة لقراءة علي (إذ كلاهما من قريش)، لكن أهل الكوفة يحبون الشذوذ عن الجماعة. ثم جاء عاصم بن بهدلة واستلم رئاسة الإقراء بالكوفة. قراءته هي توليف بين قراءة عبد الله بن مسعود الهذلي، وبين قراءة علي بن أبي طالب القرشي. لكن المتأمل لمعالم هذه القراءة، يجد قوة تأثير ابن مسعود عليها (إن لم تكن الغالبة). فإن الهمز –مثلاً– هو لغة هذيل، وليس لغة قريش. وانتشرت قراءة عاصم انتشاراً كبيراً في أهل الكوفة، على كثرة قراءها وتعددهم. ونالت بقبول العلماء والقراء. ثم ظهر رجل فارسي يسمى حمزة، فمزج بن سائر قراءات الكوفة. ومن تأمل أسانيده لوجدها ترجع إلى علي وابن مسعود، وربما أُبي، مع الالتزام بموافقة مصحف عثمان. لكن انتقده العلماء لأخذه بقراءات شاذة وتكلفه في الأداء أحكاماً شاذة عن مذاهب العرب. ومنهم من بدع قراءته وأبطل الصلاة خلفه، مع أن فرش الحروف عنده صحيح.

قال ابن مجاهد في كتاب السبعة (ص71): «وإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة، وليست بالغالبة عليهم. لأن أضبط من أخذ عن عاصم: أبو بكر بن عياش –فيما يقال– لأنه تعلمها منه تعلماً خمساً خمساً. وكان أهل الكوفة لا يأتمّون في قراءة عاصم بأَحَدٍ ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش. وكان أبو بكر لا يكاد يُمَكِّن من نفسه من أرادها منه، فقلَّتْ بالكوفة من أجل ذلك، وعَزَّ من يحسنها، وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات». فهذا سبب شيوع قراءة حمزة رغم شذوذها. وعلى أية حال فأهل الكوفة يحبون الشذوذ بخلاف باقي الأمصار. تجد ذلك عندهم في القراءات والاعتقاد والفقه والحديث بل حتى في اللغة العربية. وأسند ابن مجاهد (ص76) عن محمد بن الهيثم المقرئ (ت 249هـ) قوله: «أدركت الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة، ولا أعلمني أدركت حلقة من حلق المسجد يقرأون بقراءة عاصم». وقراءتي الكسائي وخلف راجعتان إليه متأثرتان به.

على أن قراءة الدوري عن أبي عمرو قدمت إلى الكوفة من البصرة وانتشرت مع الزمن، حتى طغت على عامة المشرق الإسلامي لعدة قرون. إلى أن أتى العثمانيون وفرضوا قراءة حفص عن عاصم بالقوة. ومن جنوب العراق (وبخاصة النجس وكربلاء) انتشرت قراءة عاصم كذلك إلى البلاد الشيعية، فلا يقرأ الشيعة اليوم إلا بها.

 

شمال إفريقيا والأندلس

أول قراءة انتشرت في إفريقيا هي قراءة ابن عامر، على يد الدعاة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز، وبخاصة إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر. وكذلك أول قراءة عرفتها الأندلس هي قراءة ابن عامر الشامي، بسبب أن الجند الشامي الذي فتحها كان يقرأ بها. وكذلك انتشر مذهب الأوزاعي الشامي. قال المقري في نفح الطيب (2|185): «واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام منذ أول الفتح». وقد ذكروا أن صعصعة بن سلام (ت 192 هـ) هو أول من أدخل فقه الأوزاعي إلى الأندلس (انظر جذوة المقتبس للحميدي ص244 #510). واستمر المغاربة والأندلسيون يقرءون القرآن الكريم برواية هشام عن ابن عامر ما يزيد على القرن.

ثم في المئة الثانية، انتشرت في القيروان قراءة حمزة على يد المقرئين القادمين من بغداد والكوفة مع الولاة العباسيين، «ولم يكن يقرأ لنافع إلا خواص من الناس» (كما في غاية النهاية 2|217). وكان الغازي بن قيس (ت 199هـ) الرائد الأول في إدخال قراءة نافع، في حين أنه أيضا أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس (انظر غاية النهاية 2|2 وترتيب المدارك 3|114). ثم انتشرت في الأندلس وأقصى المغرب رواية ورش عن نافع، خاصة مع انتشار المذهب المالكي. قال الإمام الذهبي في معرفة القراء (1|150): «ولمكان أبي الأزهر (عبد الصمد العتقي، من أصحاب مالك) اعتمد الأندلسيون قراءة ورش».

ويذهب ابن الفرضي إلى أن محمد بن خيرون (306 هـ) هو الذي استبدل قراءة حمزة في إفريقيا بقراءة نافع. لكن أثبت د. عبد الهادي حميتو أن الاستبدال حصل قبل ذلك بكثير. قال: «ونخلص من هذا إلى تأكيد انتشار قراءة نافع بافريقية قبل الوقت الذي حدده ابن الفرضي. وأن هذا الانتشار قد كان في زمن سحنون، وربما في العقود الأولى من المئة الثالثة. ثم تزايد الإقبال عليها من لدن الجمهور بتدخل من السلطة القضائية لصالحها، وبالأخص على عهد ولاية سحنون للقضاء سنة 234 هـ». وتم التحول الأغلبي من مذهب الكوفة (الفقه الحنفي وقراءة حمزة) إلى مذهب المدينة (الفقه المالكي وقراءة نافع) على يد سحنون وتلامذته. ففي عهد تصدره–ما بين عودته من رحلته سنة 191 وبين وفاته سنة 240هـ– تمت النقلة العظيمة في افريقية والجهات المغربية التابعة لها إلى مذاهب أهل المدينة، وتم وضع الأسس العتيدة لها بالمنطقة.

 قال عياض في ترتيب المدارك (1|25): «إن افريقية وما وراءها من المغرب كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك، فأخذ به كثير من الناس. ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون (ت240هـ) فغلب في أيامه، وفض حلق المخالفين». وقال (4|313): «ذكر أبو عمرو الداني في كتابه (طبقات القراء والمقرئين)  أن ابن طالب (من أصحاب سحنون) أيام قضائه، أمر ابن برغوث المقرئ (272 هـ) بجامع القيروان، ألا يقرئ الناس إلا بحرف نافع». ثم اختار أهل تونس من قراءة نافع الرواية المدنية، وهي رواية قالون، واختار أهل المغرب رواية ورش المصري، من طريق يوسف الأزرق المدني.

 

سرد تاريخي لانتشار القراءات

قال شيخنا أبو خالد السلمي عن القراءات: إن الذي توصلت إليه من خلال النقول التي تجمعت لديّ حول السرد التاريخي لانتشار القراءات في الأمصار وانحسارها منها ما يلي:
1) إلى عصر الإمام ابن مجاهد الملقب بـ ( مُسبّع السبعة ) والذي ألف كتابه سنة 300 هـ كانت القراءات السبع يقرأ بها في الأمصار، ولكن كان الغالب على أهل المدينة قراءة نافع، وعلى أهل مكة قراءة ابن كثير، وعلى أهل الشام قراءة ابن عامر، وعلى أهل البصرة قراءة أبي عمرو ويعقوب، وعلى أهل الكوفة قراءة عاصم وحمزة، قال مكي بن أبي طالب: وكان الناس على رأس المئتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك فلما كان على رأس الثلاثمئة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب. اهـ
وسبب عدم إيراد ابن مجاهد لقراءة يعقوب في كتابه رغم أنها كانت القراءة الأغلب على أهل البصرة في زمنه أنه لم يكن لديه إسناد بها، فأورد بدلها قراءة الكسائي الكوفي رغم إيراده قارئين كوفيين هما عاصم وحمزة ورغم أنها كانت أقل شهرة في الكوفة منهما لتوفر إسنادها لديه.
2) في عصر ابن مجاهد قلّ انتشار رواية حفص عن عاصم بالكوفة وكانت رواية شعبة عن عاصم هي أشهر رواية عن عاصم بالكوفة، بينما كانت قراءة حمزة أكثر شهرة من قراءة عاصم بالكوفة كما يشهد لذلك قول ابن مجاهد: وإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم. لأن أضبط من أخذ عن عاصم: أبو بكر بن عياش –فيما يقال– لأنه تعلمها منه تعلماً خمساً خمساً. وكان أهل الكوفة لا يأتمّون في قراءة عاصم بأَحَدٍ ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش. وكان أبو بكر لا يكاد يُمَكِّن من نفسه من أرادها منه، فقلَّتْ بالكوفة من أجل ذلك، وعَزَّ من يحسنها، وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات. اهـ
3) في القرن الخامس الهجري كانت قراءة يعقوب هي الغالبة على أهل البصرة كما يستفاد ذلك من قول الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني 371 ـ444 هـ قال أبو عمرو الداني: ائتم بيعقوب في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو، وسمعت طاهر بن غلبون يقول: إمام الجامع بالبصرة لا يقرأ إلا بقراءة يعقوب. اهـ
4) أما أهل الشام فاستمروا يقرؤون بقراءة ابن عامر إلى نهاية القرن الخامس حتى قدم عليهم أحد أئمة القراء وهو ابن طاووس فأخذ يعلم رواية الدوري عن أبي عمرو ويقرئ بها أهل الشام فأخذت في الانتشار التدريجي بالشام حتى حلت محل قراءة ابن عامر، كما يستفاد هذا من قول ابن الجزري: ولا زال أهل الشام قاطبة على قراءة ابن عامر تلاوة وصلاة وتلقينا إلى قريب الخمسمئة وأول من لقن لأبي عمرو فيما قيل ابن طاووس. اهـ
5) كان الإمام ورش شيخ الإقراء بالديار المصرية ورحل إلى نافع فقرأ عليه أربع ختمات ثم رجع إلى مصر وأخذ ينشر قراءة نافع وعنه انتشرت قراءة نافع في أرجاء المغرب العربي وكثير من البلاد الإفريقية، وهناك سبب آخر مهم لانتشار قراءة نافع في المغرب العربي وهي أنها قراءة إمامهم مالك بن أنس رحمه الله فكما أخذ المغاربة بفقه أهل المدينة أخذوا أيضا بقراءتهم، غير أن أهل المغرب الأدنى (ليبيا وتونس) وما حاذاها من البلاد الإفريقية كتشاد انتشرت فيهم رواية قالون عن نافع لسهولتها وخلوها من المدود الطويلة والإمالات التي في رواية ورش.
6) رواية الدوري عن أبي عمرو غلبت على أهل العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا إلى القرن العاشر الهجري. ويستفاد هذا من النقل التالي عن الإمام ابن الجزري (ت 833هـ) قال: قال ابن مجاهد وحدثونا عن وهب بن جرير قال قال لي شعبة تمسك بقراءة أبي عمرو فإنها ستصير للناس إسنادا وقال أيضا حدثني محمد بن عيسى بن حيان حدثنا نصر بن علي قال قال لي أبي قال شعبة انظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا قال نصر قلت لأبي كيف تقرأ قال على قراءة أبي عمرو وقلت للأصمعي كيف تقرأ قال على قراءة أبي عمرو قال ابن الجزري وقد صح ما قاله شعبة رحمه الله فالقراءة عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو فلا تجد أحدا يلقن القرآن إلا على حرفه خاصة في الفرش وقد يخطئون في الأصول ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمسمئة فتركوا ذلك لأن شخصا قدم من أهل العراق وكان يلقن الناس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو فاجتمع عليه خلق واشتهرت هذه القراءة عنه وأقام سنين كذا بلغني وإلا فما أعلم السبب في إعراض أهل الشام عن قراءة ابن عامر وأخذهم بقراءة أبي عمرو وأنا أعد ذلك من كرامات شعبة.اهـ

7) في الوقت الذي انتشرت فيه رواية الدوري عن أبي عمرو في الأقطار المشار إليها في الفقرة السابقة وهي (العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا ) كانت رواية حفص عن عاصم بدأت تنتشر لدى الأتراك، وبدأت الدولة العثمانية تبسط سلطانها على معظم أرجاء العالم الإسلامي، فصارت ترسل أئمة وقضاة ومقرئين أتراك إلى أرجاء العالم العربي فانتشرت رواية حفص عن طريقهم وكذا عن طريق المصاحف التي تنسخها الدولة العثمانية برواية حفص، فأخذت رواية حفص عن عاصم تحل تدريجيا محل رواية الدوري عن أبي عمرو، فآل الأمر إلى انحسار انتشار رواية الدوري فلم تبق إلا في اليمن والسودان والقرن الإفريقي، وقد اطلعت على كتب تجويد لعلماء يمنيين مؤلفة في حدود سنة 1370 هـ على وفق رواية الدوري وفيها أنها الرواية المقروء بها في حضرموت وأنحاء كثيرة من اليمن حتى ذلك الوقت، ونظرا لضعف سلطان الدولة العثمانية على بلاد المغرب العربي ولشدة تمسك أهله بمذهب مالك فقد ظلت قراءة نافع هي السائدة به إلى اليوم، وذكر ابن عاشور (1379هـ \ 1972م) في تفسيره "التحرير والتنوير" أن القراءات التي يُقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام هي: قراءة نافع براوية قالون، في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي ليبيا. وبرواية ورش في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد والسودان (يقصد غرب إفريقيا). وقراءة عاصم براوية حفص عنه في جميع المشرق، وغالب البلاد المصرية، والهند، وباكستان، وتركيا، والأفغان، قال ابن عاشور: وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يُقرأ بها في السودان المجاور لمصر.اهـ

8) في الوقت الحاضر كما لا يخفى كان لوسائل الإعلام العصرية المرئية والمسموعة دور كبير في نشر رواية حفص في الأقطار التي لا زالت تقرأ برواية الدوري أو قالون أو ورش، وكذلك لانتشار المصاحف المطبوعة برواية حفص في تلك الأقطار، حتى كادت بقية الروايات عدا رواية حفص تنقرض، والأمر لله تعالى من قبل ومن بعد، وله في تقاديره الحكمة البالغة، غير أنه بحمد الله بدأت في السنوات الأخيرة بوادر صحوة علمية عظيمة تجاه القراءات القرآنية في العديد من الأقطار الإسلامية، وبدأ الشباب يقبلون على تعلم القراءات العشر وتعليمها وقراءتها والإقراء بها، وهي ظاهرة صحية مبشرة بالخير، والحمد لله رب العالمين.

تعليق على ما أفاده شيخنا:

ابن الجزري (751-833هـ \ 1350-1430م) (عاش في أيام تيمورلنك) يقول أن القراءة في عصره بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة الدوري عن أبي عمرو. لم يذكر خراسان وتركيا مع أنه درّس طويلاً ببلادهم، لكن لم تكن تلك البلاد مبرزة في القراءة لعجمة أهلها، فلعله أهمل ذكر تلك الديار اعتمادا على ذكره لأشهر الديار. لكن الزمخشري (ت 538) خراساني كتب تفسيره على قراءة أبي عمرو. وكذلك فعل الواحدي، مما يدل أنها كانت هي القراءة المنتشرة في المشرق كذلك. لكن أبا السعود قد كتب تفسيره برواية حفص عن عاصم، مما يدل على وجودها في تركيا آنذاك. وقد كانت رواية قالون عن نافع منتشرة في اليمن كذلك كما يظهر من اعتماد الشوكاني (ت1250) لها في تفسيره فتح القدير، ومن قبله الصنعاني (شيخ شيخه) في مفاتح الرضوان، واستمر هذا للعهد الجمهوري حيث خرج مصحف مرتل للمقرئ محمد حسين عامر برواية قالون. أما حضرموت فكانت على رواية الدوري كما سبق.

لكن متى انتشرت قراءة حفص وهي التي لم تشتهر إلا عند بعض القراء؟ لم يذكر ابن الجزري عن العثمانيين في عصره قراءتهم بها، ولا عن أهل المشرق. فمتى انتشرت؟ لا شك أن ذلك تم خلال الحكم العثماني (بدأ عام 922هـ \ 1516م)، لكن لا أعرف متى بالضبط بدأ الانتشار. ولا يكاد الدارس يجد نصاً في الموضوع، بسبب انتشار الجهل في ذلك العصر (أي بعد ابن الجزري) وقلة التأليف. فنجد محمد بن بدر الدين المنشي الرومي الحنفي يصنف تفسيره سنة 981هـ=1574م برواية حفص، مما يدل على انتشارها في تركيا بعد عصر ابن الجزري. ونجد محمد المرعشي الملقب ساﭽقلي زاده (ت 1150هـ=1737م) يقول في جهد المقل (ص293): "والمأخوذ به في ديارنا (مرعش في جنوب تركيا) قراءة عاصم برواية حفص عنه". و يظهر أنه بعد انتشار قراءة حفص في تركيا قبل القرن السادس عشر الميلادي، فإنه بدئ الانتشار في الشام في القرن الثامن عشر الميلادي، وفي بداية القرن التاسع عشر في مصر. فالفقيه ابن عابدين الحنفي الدمشقي (1198-1252هـ \ ‏1748-1836م) يذكر في "حاشيته" أن اختيار الحنفية في القراءات هو قراءتي حفص عن عاصم والدوري عن أبي عمرو، قال (1|541): "ومشايخنا اختاروا قراءةَ أبي عَمْرٍو وحفصٍ عن عاصم". وقد قرأ على سعيد الحموي شيخ القراء ‏بدمشق. مما يدل على استمرار قراءة أبي عمرو في الشام حتى ذلك العصر المتأخر. ولا شك أن انحسارها عن مصر واليمن أخذ وقتاً أطول لبعد تلك البلاد عن مركز الدولة العثمانية. والذي ذكره شيخنا السلمي أنها بقيت في حضرموت لما بعد سنة 1370هـ=1951م. ققراءة حفص لم تنتشر في تلك البقاع إلا في وقتنا الحالي.

 

ومما ساهم في نشر قراءة حفص انتشار الجهل بشكل كبير وغياب العلماء. ويذكر شيخ قراء الشام كريّم راجح في مقابلة له مع قناة المجد أن كل علماء الشام ما كانوا يعرفون من أحكام التجويد إلا الادغامات وبعض المدود على ما أذكر. يعني ولا حتى قراءة حفص. إذ أنه بعد وفاة الإمام المحقّق ابن الجزريّ الدمشقي ت833هـ فَتَر التّأليف في القراءات وانعَدَم أو كادَ إلى حدود القرن الثّالث عشر الهجريّ. حتّى أعاد الشيخ أحمد الحلواني الكبير (1228-1307هـ=1890م) القراءات القرآنيّة إلى بلاد الشّام روايةً وتلاوةً وتلقيناً. فربما في ذلك الزمن تحديداً تم تأكيد قراءة حفص كقراءة رسمية، حيث أنه لما قدم مكة سنة 1253هـ=1838م قرأ على شيخه أحمد المرزوقي بقراءة حفص أولاً مما يدل على تفضيله لها، وإلا فالمصاحف التي كانت توزعها الدولة العثمانية كانت على رسم حفص قبل ذلك العصر. أما بعد انتهاء الحقب العثماني فقد استمر الخطأ على ما هو عليه. فالكثير من الدول الإسلامية تمنع بالقانون القراءة بغير قراءة حفص. والمطابع لا تطبع بغيرها. ووسائل الإعلام السمعية (كالمذياع) أو المرئية، لا تسمح إلا بقراءة حفص.

 

وكانت الرواية المنتشرة في مصر منذ القرن الثالث الهجري إلى أواخر القرن الخامس: هي قراءة أهل المدينة، خاصة برواية ورش عثمان بن سعيد المصري عن نافع المدني. ثم حلت محلها قراءة أبي عمرو بن العلاء برواية الدوري. واستمر العمل عليها حتى منتصف القرن الثاني عشر الهجري. انظر الإضاءة في بيان أصول القراءة للشيخ على الضباع ص 72. ولم تكن رواية حفص معروفة في مصر حتى الحكم التركي. بل إننا نجد القرطبي (نزيل مصر) أحيانا لا يشير إلى خلاف حفص، مع أنه متطلع عليها بلا شك، وهذا يدل على أنها لم تكن رواية منتشرة مشهورة بين العامة في عصره. فرواية حفص لم تدخل إلى مصر إلا بعد فترة طويلة من دخول العثمانيين الذي حدث في أوائل الربع الثاني من القرن العاشر الهجري (أوائل القرن السادس عشر الميلادي). وفي دراسة قام بها الدكتور سيف الله (ونشرها في موقع الصحوة الإسلامية) على مخطوطات المصاحف، ذكر فيها ملاحظة المستشرق أدريان بروكيت: أنه لا يوجد نقص من المخطوطات من القرون السابقة التي تحمل قراءة أبي عمرو، خاصة في مصر. وهذا الوضع صار يتغير باستمرار منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بتأثير المطابع، حيث أن قراءة أبي عمرو لم تُطبع قط. اهـ. فطباعة القرآن كان لها الشأن الأكبر في التمكين لرواية حفص والقضاء على الروايات الأخرى. فأقدم مصحف طبع في مدينة هامبورك بألمانيا سنة 1694م (=1106هـ تقريباً) كان مضبوطاً برواية حفص عن عاصم (ينظر: كتاب رسم المصحف ص508). واشتهر من خطاطي الدولة العثمانية الحافظ عثمان (ت1110هـ) الذي كتب بخطه خمسة وعشرين مصحفاً (ينظر: محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي ص339)، واشتهرت المصاحف التي خطها الحافظ عثمان في العالم الإسلامي شهرة واسعة "وقد طُبِعَ مصحفه مئات الطبعات في مختلف الأقطار الإسلامية، وانتشر في العالم الإسلامي، وفاق الطبعات السابقة واللاحقة" (وليد الأعظمي: تراجم خطاطي بغداد ص131)، وهذا قبل ظهور مصحف الأزهر ومصحف المدينة طبعاً.

 

وهكذا قام الأتراك والمستشرقون وبعض جهلة العرب بالقضاء على القراءات القرآنية المتواترة بهذه الطريقة. يقول الشيخ عبد الرشيد الصوفي (الصومالي الأصل القطري المنزل): رواية حفص عن عاصم لم يكتب لها الانتشار والذيوع في المشرق الإسلامي سوى في المئتي سنة الأخيرة، حيث كان أهل المشرق من مصر والشام والعراق والحجاز والجزيرة العربية واليمن والسودان وغيرها لا يعرفون ولا يقرؤون إلا بقراءة أبي عمرو البصري براوييه الدوري أو السوسي، بدليل أن معظم من ألف في علم التفسير كان النص القرآني في تفسيره بقراءة أبي عمرو البصري، مثل تفسير الجلالين. وأنا لديّ مصحف مخطوط في مصر قبل نحو 250 سنة يقول كاتبه في المقدمة: "وقد خُط هذا المصحف على ما يوافق قراءة أبي عمرو البصري، لأن أهل مصر لا يعرفون سواها ولا يقرؤون إلا بها" انتهى. ويقول عن سبب انتشار رواية حفص: عندما بدأت المطابع في زمن الخلافة العثمانية وأرادوا أن يطبعوا المصحف بالآلة الطابعة التي كانت بدائية جدا في ذلك الزمان، بحثوا عن أقرب الروايات تقاربا في اللفظ والكتابة، فوجدوا رواية حفص عن عاصم هي الأقرب للمطلوب. فاستقر رأيهم على أن تكون رواية حفص هي المعتمدة في الطباعة، حيث لا توجد فيها إمالات أو حروف مسهلة. ولذلك فإن البلاد التي ابتعدت عن السلطة العثمانية في هذا الزمن، ظلت على قراءة أبي عمرو مثل أهل السودان واليمن والصومال وغيرها، حتى أنهم لما كانت تأتيهم المصاحف برواية حفص كانوا يذهبون بها إلى المطوع ليصحح لهم ظنا منهم أن بها أخطاء.

 

ثم بعد العهد التركي، صارت كثير من الدول الإسلامية تعتبر رواية حفص هي الرواية الرسمية، وتقمع بالقانون من تسول له نفسه أن يقرأ بقراءة متواترة. وغدت الإذاعات والمرئيات لا تقرأ بغير رواية حفص. وكان أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم في العالم الإسلامي بصوت الشيخ خليل الحصري برواية حفص. كما أصبح تدريس القرآن برواية حفص في المدارس والمعاهد والجامعات والكتاتيب في أغلب الأقطار، ثم يُبنـى عليها بقية القراءات العشر المتواترة في المعاهد القرآنية المتخصصة. وقد بدئ المستشرقون أولاً بالترويج لقراءة حفص عن طريق طباعة القرآن بها، ثم تبعهم الأتراك الحنفية، ثم وصلت الطباعة لمصر واختاروا قراءة حفص (هو اختيار المدعو حفني ناصف 1342هـ=1923م، حيث طبع مصحف الملك فؤاد بالخط الغير قياسي). وعن طريق مصر انتشرت قراءة مصر إلى نجد والحجاز ثم إلى اليمن في العهد الجمهوري. وصار مصحفي مصر والمدينة المنورة برواية حفص، مما ساهم بالترويج لتلك القراءة في إفريقيا وغيرها. ومع أن مجمع فهد طبع المصحف أخيراً بروايات ورش والدوري وقالون (وقريباً شعبة والسوسي والبزي وقنبل) فعادة لا يتم توزيع إلا رواية حفص بكميات كبيرة لنشرها وحدها. لذلك قامت وزارة الثقافة المغربية بمنعه، حفاظاً على قراءة ورش التي تكاد تنقرض في الجزائر وغيرها. وحتى ترجمة القرآن للإسبانية، كان النص القرآني فيه بحروف ورش، لكنهم غيروه حديثاً إلى حفص! والسودان كان في السابق يقرأ قراءة الدوري، لكن تحت تأثير مصر والسعودية تم اعتماد رواية حفص رسمياً، ولم تبق قراءة الدوري إلا في كتاتيب دارفور القديمة. ولحسن الحظ فإن حكومة السودان تنبهت إلى هذه الكارثة، وقامت بطباعة "مصحف إفريقيا" بالدوري وغيره. وكذلك الصومال كانت بالكامل تقرأ بالدوري، لكن نتيجة ظروف الحرب وتوزيع مصاحف ورش السعودية، أصبحت قراءة حفص منافسة قوية للدوري.

 

وقامت عدد من الدول العربية مثل السعودية وغيرها بمنع قراءة أي قراءة غير حفص في المساجد. وهو شيء مؤسف أن يحدث في الحرمين وهو المكان الذي يأمل المسلم أن يستمع فيه لمختلف القراءات. كما أنه من المضحك المبكي أن يربط البعض بين السلفية وبين قراءة حفص، فترى المقرئين في الجزائر يتبارون بالقراءة بحفص بدلاً من ورش ليثبتوا سلفيتهم! مع أن السلف كانوا يقرؤون بمختلف القراءات، ولم يحدث أن يجبروا الناس على قراءة معينة. فمنع القراءات المتواترة هو منع لجزء من القرآن. والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (159) سورة البقرة. بل بلغ الجهل مبلغاً في بعض الأحداث المنتسبين للسلفية إلى سرقة مصاحف ورش من مساجد الجزائر واستبدالها بمصاحف حفص التي توزع مجاناً. "لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده". فتحت أي مبرر تتم سرقة المصاحف وإتلافها؟ والجواب أن هؤلاء الجهلة يعتبرون المصحف على رواية ورش بدعة محلية يجب التصدّي لها. والغريب أن بعض مشايخهم يعتبر أن ورش أقرب إلى العامية حيث لا ينطق بالهمزة و هي تختلف في كتابتها عن الكتب المدرسية، و هو بذلك يشكك في صحتها! بل عديد من المشايخ الجهلة يعتبرون أن قراءة حفص هي الأفصح والدليل أنها موافقة لقواعد الإملاء في الهمز وغيره! سبحان الله، أفلا يعلمون أن قواعد الإملاء الحديثة إنما تم إنشائها لتوافق قراءة حفص؟ وإلا فعامة العرب لا تستعمل الهمز.

 

والترجيح بين القراءات في الفصاحة فيه نظر شديد، لأن كل قراءة متواترة هي من عند الله، وقد نزلت بالعربية الفصحى قطعاً {قرآناً عربياً}، ولهجات قبائل العرب تختلف. فإن أردنا أن نقول أن الأفصح هو الأشهر أو الأفصح هو لهجة قريش، فنصيب قراءة حفص الكوفي قليل. وعامة العرب لا تهمز إلا أعراب بني تميم ومن لحق بهم من هذيل. قال خلف بن هشام (كما في إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1|164): «وقريش لا تهمز، ليس الهمز من لغتها، وإنما همزت بلغة القراء غير قريش من العرب». وقال أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء (1|166): «العرب لا تنطق بهمزة ساكنة، إلا بنو تميم، فإنهم يهمزون، فيقولون "الذئب" و"الكأس" و"الرأس"». قال الشيخ الضباع في "الهمزات في القراءات العشر": وإنما تنوعت العرب في تخفيف الهمز بالأنواع المذكورة (يعني التسهيل والإبدال والإسقاط والنقل) لكونه أثقل الحروف نطقا، وأبعدها مخرجا.‏ وكانت قريش والحجازيون أكثرهم له تخفيفا، بل قال بعضهم هو لغة أكثر العرب الفصحاء. ‏وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول لابن مسعود‏:‏ أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل‏. وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال‏:‏ إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد‏:‏ إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم. وكذلك قوله تعالى في القرآن ‏:‏ ‏{‏‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏} ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏، يدل على ذلك، فإن قومه هم قريش، كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏66‏].

 

بقي المشرق. متى انتشرت قراءة حفص في تركستان والهند وأندونيسيا؟ بل حتى الشيعة صاروا يقرؤون بها مع أنه ليس عندهم إسناد متصل في القرآن، إذ هم عالة على أهل السنة، وكذلك الأباضية. لم أظفر بأي كتابة عن هذا الموضوع. والله أعلم.