قال ابن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" (6|126): «وليعلم مَن قرأ كتابنا، أن هذه البدعة العظيمة –نعني التقليد– إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومئة من تاريخ الهجرة (140هـ)، وبعد أزيد من مئة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله r. وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحدٌ فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها. ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المئتين من الهجرة (200هـ) عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله –عز وجل– وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم. نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح».
وكان هناك عدة مذاهب مشهورة عند السلف، لكنها انقرضت اليوم. مثل مذاهب الثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وإسحاق بن راهويه (راهَوَيْه على مذهب النحاة، و راهُوْيَه عند المحدثين. وكذلك الاسم الأصلي بالفارسية). فسفيان الثوري كان كوفياً مذهبه يشبه مذهب أبي حنيفة، لكنه أكثر معرفة بالحديث والآثار منه، وأعرف بصحيح الحديث، وأقل قياساً. وقد نقل أبو الشيخ عن أبي سفيان صالح بن مهران الحكيم قوله: «"جامع سفيان" الذي تقاتل الناس عليه، ما خالف أبا حنيفة إلا في خمس عشرة مسألة».
والأوزاعي مذهبه قريب من مذهب الشافعي إلى حدٍّ ما من ناحية الاعتناء بالأثر والإقلال من القياس. يظهر ذلك من تعليقات الشافعي في "الأم" على كتاب أبي يوسف القاضي "الرد على سير الأوزاعي". وطالما أن مذهبه بدأ ينقرض في الأندلس أيام هشام، فهذا يدل على أنه قد تم تدوينه، لكن ما أعلم أنه وصلنا من كتبه شيء. وإن كانت آراء الأوزاعي قد سُجل كثيرٌ منها في الكتب الأخرى. يعني العالم إذا تفرد برأي، فغالباً ما يلتقطه غيره وينشره ويعلق عليه. وكذلك مذهب الثوري قد بقي لحدود سنة 700هـ، ولا بد أن يكون قد تم تدوينه.
والليث بن سعد كان الشافعي يعتبر مذهبه أقوى من مذهب مالك. ويبدو أنه أقرب لمذهب الشافعي من ناحية اعتماد الدليل وعدم الاعتماد على الرأي المجرد. لكن تلاميذ الليث أهملوا تدوين مذهبه، فضاع. قال الشافعي: «الليث أفقه من مالك، إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به». كما أن المالكية قد بذلوا جهداً كبيراً في إخفاء هذا المذهب واستبداله بمذهب مالك. وعبد الله بن المبارك تتلمذ على أبي حنيفة والثوري، إمامي الكوفة. ومذهبه هو مزيج بين مذاهب العراقيين والحجازيين، مع معرفة عالية بالحديث الصحيح. وكانت له جلالة كبيرة في المشرق. أما مذهب إسحاق فهو شبيه بمذهب أحمد، لكنه يحتج بأحاديث ضعيفة. وإذا تأملنا موافقات هؤلاء لمذهب الظاهرية، فأكثر الموافقات هي مع: الأوزاعي، ثم الليث بن سعد، ومن بعدهما أبو ثور، ثم أحمد، ثم الشافعي، ثم مالك، ثم النعمان، ثم الطبري.
وإجمالاً فالذي يُبقي المذهب هو الكتابة! فمن اعتنى بكتابة مذاهب ابن المبارك
والليث وإسحاق وغيرهم؟ وهل يتصور المرء أن يصلنا مذهب ابن حزم الظاهري (مع
فرط ظاهريته وكثرة
معارضيه وإحراقهم لكتبه) لولا مؤلفاته الكثيرة وبخاصة موسوعة الفقه
"المحلّى"؟ فالتدوين والكتابة هي التي تحفظ المذهب، والسلطان هو الذي ينشره.
والله أعلم. فالأئمة الأربعة قام تلامذتهم بتدوين فقههم، وبذلك حفظت تلك
المذاهب إلى اليوم. فقام محمد بن الحسن بتدوين آراء صاحبيه أبي يوسف وأبي
حنيفة، في عدة كتب. ومالك جمع مسائله بعض تلامذته كابن القاسم وغيره. والشافعي
كتب مذهبه بنفسه. وأحمد له مسائل كثيرة جمع الخلال وغيره الكثير منها من
أصحابه. لكنها مسائل مختصرة ذات عبارات غامضة غير منقحة، مما جعل الروايات
المتناقضة تكثر عن الإمام أحمد.
وأما مذاهب الأوزاعي والليث والثوري وإسحاق وأمثالهم من الأئمة المجتهدين، فلم تُخدم. ولذا فيصعب من الناحية العملية أن ينتسب إليها الإنسان. إذ أين يجد أقوال متبوعه في كل مسألة في الأصول والفروع الفقهية؟ وأين يجد من يتفقه عليه ويدرس عليه كتاباً من كتب مذهبه؟ ويحتمل أن تكون لهم كتب، لكنها ضاعت ولم تصلنا. فمثلاً قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20|583): «وأما الأئمة المذكورون فمن سادات أئمة الإسلام. فإن الثوري إمام أهل العراق. وهو عند أكثرهم (أي أكثر العلماء) أجل من أقرانه: كابن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن حي، وأبي حنيفة، وغيره. وله مذهبٌ باق إلى اليوم بأرض خراسان. والأوزاعي إمام أهل الشام. وما زالوا على مذهبه إلى المئة الرابعة. بل أهل المغرب (وبالذات الأندلس) كانوا على مذهبه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك».
وكون مذهب الثوري استمر في خراسان إلى ذلك الوقت المتأخر (بعد 700هـ)، يدل على أن هناك كتب له، وإن لم تصلنا. وهذه الكتب لا شك أن بعضها قد نجى من نكبة مكتبة بغداد، لأن ابن تيمية قد جاء بعد عصر هولاغو. بل نجد الحافظ ابن رجب ينقل من كتب أصحاب سفيان الثوري. وفي "فتح الباري" لابن رجب: «وما حكيناه عَن الثوري، حكاه أصحابه عَنْهُ فِي كتبهم المصنفة عَلَى مذهبه». وفي موضع آخر: «وكذلك نقل أصحاب سفيان مذهبه في تصانيفهم». «ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب سفيان الثوري». «وقد ذكر بعض أصحاب سفيان في مصنف لَهُ على مذهبه رواية ابن المبارك هَذهِ عَن سفيان». فهذه نصوص تظهر بقاء بعض هذه الكتب إلى زمن الحافظ ابن رجب الدمشقي (ت 795هـ)، لكن لا نعرف إن كان قد اطلع على كتاب "الجامع الكبير" للثوري أم لا. ويظهر أن مذهب سفيان الثوري استمر في المشرق (خاصة بأصبهان وقزوين)، إلى أن قضى عليه الصفويون الرافضة. أما مذهب الأوزاعي، فيظهر أنه كانت له كتب في الأندلس، فإما قضى عليها المالكية (كما فعلوا مع مذهب الليث في مصر)، وإما دثرت مع الغزو الصليبي الإسباني للأندلس، مع جملة ما ضاع من كتب قيمة.
وليس ضياع أقوال صاحب مذهب، دليلاً على ضعفه مذهبه. لا. وإنما دليل على عدم تبني السلطان لمذهبه. فالثوري وابن المبارك أفقه من أبي حنيفة، وقد ضاع فقههما. وهذا الليث أفقه من مالك (بشهادة اثنين من كبار تلامذة مالك)، وقد ضاع فقهه. وما كان الأوزاعي دون أبي يوسف، ومع ذلك فقد ضاع فقه الأول وبقي فقه الثاني لتبني السلطان له.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "بيان فضل علم السلف على علم الخلف" (ص67): «وفي زماننا يتعيَّن كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذرٍ مما حدث بعدهم. فإنه حدث بعدهم حوادث كثير. وحدث من انتسب إلى متابعة السن والحديث، من الظاهرية ونحوهم، وهو أشد مخالفة لها، لشذوذه عن الأئمة وانفراده بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله».
بقي العمل بالمذاهب المتعدّدة عند أهل السنة، الأربعة وغيرها، إلى أن جعل الخلفاء
المدارس وقصروا التدريس في هذه المذاهب. كما أن مناصب القضاء حُصرت أيضاً في
القضاة الذين يقضون بفتاوى الأئمة الأربعة. واستمر الحال على ذلك، إلى أن أمر
السلطان الظاهر بيبرس –الذي كان له النفوذ والسلطان على مصر والشام وغيرهما من
بلاد الإسلام– بجعل قضاة أربعة في مصر: لكل مذهب قاض خاص، وكان ذلك في سنة 663هـ.
ثم جعل بعد ذلك بعام في بلاد الشام قضاة أربعة أيضاً. وعلى ذلك استمر الحال.
فانحصرت المذاهب عند أهل السنة في هذه الأربعة، منذ ذلك الوقت إلى زماننا الحاضر.
قال المقريزي في "المواعظ والاعتبار" (خطط المقريزي) (3|390): «فلما كانت سلطنة
الظاهر بيبرس البندقداري، ولَّى بمصر أربعة قضاة، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي.
فاستمر ذلك من سنة 665هـ، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعرف من مذاهب
الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة. وعُمِلَت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا
والربط في سائر ممالك الإسلام. وعُودي مَن تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه. ولم يوَلَّ
قاضٍ ولا قُبِلت شهادة أحد، ولا قُدِّم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلِّداً لأحد
هذه المذاهب. وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب
وتحريم ما عداها».
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (13|260): «ثم دخلت سنة أربع وستين وستمئة
(664هـ)، استهلَّت والخليفة: الحاكم العباسي، والسلطان: الملك الظاهر، وقضاة مصر
أربعة، فيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول... وقد
كان هذا الصنيع الذي لم يُسبَق إلى مثله، قد فُعِلَ في العام الأول بمصر كما
تقدم، واستقرت الأحوال على هذا المنوال». وذكر ذلك أيضاً: الذهبي في كتابه "العِبر
في خبر من غبر" (3|307) في حوادث سنة 663هـ، وابن العماد الحنبلي في "شذرات
الذهب" (5|312)، وتغري بردي في "النجوم الزاهرة" (7|121) وغيرهم.
قال السيد سابق في فقه السنة (1|10): «وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة
الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي
أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتُبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء
مبتدعاً لا يوثق بأقواله، ولا يُعتد بفتاويه. وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح
الرجعية ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على
مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن
الاجتهاد، محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم!».
سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً: «ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن
الاجتهاد، وقد استكمل آلته؟». فسكت البلقيني. فقال أبو زرعة: «فما عندي أن
الامتناع عن ذلك، إلا للوظائف التي قُدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة. وإن خرج
عن ذلك لم ينله شيء، وحُرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونُسبَتْ إليه
البدعة». فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك.
وكان السبكي من المتعصبين الغالين بمذهب الشافعية. ولو أنه تعصب لسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم لكان خيراً له في دنياه. ولكن غلب عليه الطمع في الوظائف
الدنيوية، والأموال المجزية التي كانت تغدق على من يتبع هوى السلطان. وكم مثله من
الفقهاء ممن آثر السلامة وأخلد إلى الدنيا، وما أراد أن يتحمل الجهد في سبيل
إعلاء كلمة الحق. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3)
سورة العنكبوت.
وهناك المذهب الظاهري الذي أسسه داود الظاهري (ت 270هـ)، ونصره ابن حزم (456هـ)،
وتأثر به وساهم في نشره -إلى حد ما- عدد ممن اهتموا بالحديث مثل الشوكاني
والألباني وأحمد شاكر.
لكنه لم ينتشر كثيراً بسبب عدم تبني أحد من الحكام له. والأَولى أن يُقال: "الفكر
الظاهري"، ولا يُقال: "المذهب الظاهري". لأنَّ المذهب يقتضي شيخاً، واتباعاً، ولا
يمكن أن يكون في "الظاهرية" أتباع. لأنَّ التبعية غالباً ما تقوم على التقليد،
والتقليد مهدوم من أساسه في "الفكر الظاهري".
وهو موجودٌ إلى اليوم، ولكنَّ اتباعه يستحيون من الانتساب إليه، ويدارون ولاءهم
له، وأكثرهم ينتسب إلى أحد المذاهب الأخرى، أو ربما يدعي نفسه لا مذهبياً. وعليه
فقد أخطأ من كتب في تاريخ المذاهب الإسلامية، وقال بانقراض المذهب الظاهري، بل
المذهب موجود اليوم. والكثير من أتباعه هم أقزام صعدوا على الأكتاف، وقالوا بآراء
ابن حزم الشاذة، ونشروها بين الناس، ودافعوا عنها، وشوَّشوا على طلاب العلم. ولما
أخذوا هذه الأقوال، وتبنوها، أخذوا معها أخلاق ابن حزم، ونَفَسَه في الردِّ على
مخالفيه، والقسوة عليهم، ولو كانوا إخواناً لهم. نسأل الله لهم المغفرة والسداد.