نظر المرأة للرجل

 

أخرج البخاري (5|2006 #4938) ومسلم (2|608 #892) في صحيحهما: عن أمنا عائشة t، قالت: «رأيت النبي r يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو».

وهذا حديثٌ صحيحٌ فيه دلالة واضحة على جواز نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي. ومن ادعى أن أمنا عائشة t لم تكن بالغة، فقد تكلم بغير علم. إذ أن رسول الله r لم يدخل عليها إلا وقد بلغت (وكان عمرها تسع سنين). ثم إن قدوم وفد الأحباش كان سنة سبع، ولأمنا عائشة t يومئذٍ خمس عشرة سنة. فكانت بالغةً بلا أدنى ريب، وكان ذلك بعد الحجاب. إذ أن آية الحجاب نزلت في سنة خمس للهجرة.

يقول الحافظ ابن القطان في كتابه (1|64): «لا خلاف أعلمه في جواز نظر المرأة إلى وجه الرجل ما كان، وإذا لم تقصد اللذة، ولم تخف الفتنة، كنظر الرجل إلى وجه الغلمان والمردان إذا لم يقصد ولا خوف... وكذلك أيضاً لا خلاف في جواز إبداء الرجال شعورهم، وأذرعهم، وسوقهم بحضرة الرجال وبحضرة النساء».

لكن أخرج أصحاب السنن إلا ابن ماجه عن الزهري قال حدثني نبهان مولى أم سلمة عنها، قالت: كنت عند رسول الله r وعنده ميمونة. فأقبل ابن مكتوم –وذلك بعد أن أُمرنا بالحجاب–، فقال النبي r: «احتجبا منه». فقلنا: «يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟!». فقال النبي r: « أَفَعَمْيَاوانِ أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!».

هذا الحديث قد تفرد به نبهان القرشي المخزومي مولى أم سلمة، وهو مجهول العين كما أفاد البيهقي وابن عبد البر. قال عنه الذهبي في ذيل الضعفاء: قال ابن حزم: مجهول. (وهذا ينقض توثيقه في الكاشف، فتنبه). وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": مقبول. يعني: عند المتابعة، وإلا فليّن الحديث عند التفرد –كما هي الحال هنا–. وهذا اصطلاحه في "تقريب التهذيب" كما نص عليه في مقدمته. والعجيب أن الحافظ ابن حجر ذهب إلى تقويته، فقال في الفتح (9|337): «حديث أم سلمة الحديث المشهور "أفعمياوان أنتما"، وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها. وإسناده قوي!! وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان. وليست بعلة قادحة. فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد، لا ترد روايته».

قلت: الرجل مجهول، لم يوثقه إلا ابن حبان (ت 354هـ) كعادته في توثيق المجاهيل من التابعين، فكيف لا تكون هذه عِلّة قادحة؟ و أما وصف الزهري لرجل بأنه مكاتب لأم سلمة فلا يفيد التوثيق. بل إن الزهري نفسه لم يلتزم الاقتصار في الرواية عن الثقات. و ابن حجر نفسه يقول عن هذا الرجل مقبول (وهو لفظ تضعيف)، فكيف يصبح حديثه قوياً هنا؟! فقوله «إسناده قوي»، غير قوي لمخالفته لقوله في "التقريب" وللقواعد الحديثية. ثم إن قوله عن نبهان «مقبول»، غير مقبول، لأن حقه أن يقول مكانه «مجهول». وابن حجر يكثر من إطلاق كلمة مقبول على المجاهيل.

والحديث مخالف لحديث فاطمة بنت قيس الذي أخرجه مسلم في صحيحه. وأصرح منه رواية الطبراني –بسند صححه الألباني– في "الكبير" عنها، قالت: «وأمرني r أن أكون عند أم مكتوم، فإنه مكفوف البصر لا يراني حين أخلع خماري». قال أبو داود كما في نسخة "عون المعبود": «هذا لأزواج النبي r خاصة. ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم؟ قد قال النبي r لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده». قلت الحديث موضوع، والله المستعان. إذ أن رسول الله r قد أذن لأمنا عائشة t بالنظر إلى الحبشة (كما في الصحيح)، وهي زوجته، مثلها مثل أم سلمة t. قال القرطبي في تفسيره: «هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل، لأن راويه نبهان ممن لا يحتج بحديثه».

قال الإمام أحمد: «نبهان روى حديثين عجيبين: هذا الحديث، والآخر: "إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه"». وهذه إشارة منه إلى ضعف حديثه، إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأحاديث الصحيحة. ونقل عنه الفقيه الحنبلي ابن مفلح في "المبدع" (7|11) أنه قال عن هذا الحديث: «ضعيف». وقال ابن عبد البر: «نبهان مجهول، لا يعرف إلا برواية الزهري عنه: هذا الحديث. وحديث فاطمة صحيحٌ، فالحجة به لازمة. ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص بأزواج رسول الله r. بذلك قال أحمد وأبو داود». وزاد ابنا قدامة المقدسيان: «وإن قدر التعارض، فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى من الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال».

و الحديث ضعفه الأرنؤوط في شرح السنة (9|24) فقال: «وقال (أي الترمذي) حسن صحيح، مع أن في سنده نبهان –مولى أم سلمة– لم يوثقه غير ابن حبان، على عادته في توثيق المجاهيل». وقد ضعفه الألباني كذلك في غاية المرام (#203) وفي ضعيف أبي داود (#887) وضعيف الترمذي (#2940) و إرواء الغليل (#1806) و المشكاة (#3116). وهناك أحاديث أخرى –ضعفها الألباني وكفانا تخريجها– يستشهد بها من يرون منع المرأة من النظر إلى الرجل مثل: قول فاطمة t لما سئلت: ما خير للنساء؟ فقالت: «أن لا يرين الرجال ولا يرونهن». وحديث باطل أخر: «ما من امرأة تنزع خمارها في غير بيت زوجها، إلا كشفت الستر فيما بينها وبين ربها».

وأوضح من ذلك أن للمرأة أن تقوم بخدمة ضيوف زوجها في حضرته، ما دامت متأدبة بأدب الإسلام في ملبسها وزينتها وكلامها ومشيها. ومن الطبيعي أن يروها وتراهم في هذه الحال، ولا جناح في ذلك إذا كانت الفتنة مأمونة من جانبها وجانبهم. إذ روى الشيخان في صحيحيهما عن سهل بن سعد الأنصاري t قال: «لما أعرس أبو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، دعا النبي r وأصحابه. فما صنع لهم طعاماً ولا قَرَّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد: بَلَّتْ تمَراتٍ في تَوْرٍ (إناء) من حجارة من الليل. فلما فرغ النبي r من الطعام، أَمَاثـَتْـهُ له (أي مرسته بيدها) فسقته، تُتْحِفُهُ (أي تخدمه وتعطف عليه) بذلك (أي بالذي بلته أم أسيد)». وأخرجا (واللفظ لمسلم) عن سهل بن سعد قال: «دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله r في عُرسه. فكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس». قال سهل: «تدرون ما سقت رسول الله r؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه».