لبس المرأة للثياب الضيقة

 

لم يثبت في النهي الصريح عن اللباس الضيق للمرأة حديث. ولعل من أقوى ما ورد في الباب ما رواه الإمام أحمد (5|205 #22131،22129) وغيره من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن أسامة بن زيد أن أباه أسامة قال كساني رسول الله r قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي. فقال لي رسول الله r: «مالك لم تلبس القبطية؟» قلت: «يا رسول الله، كسوتها امرأتي». فقال لي رسول الله r: «مرها فلتجعل تحتها غِلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها». قال الشوكاني في نيل الأوطار: «القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها».

وهذا الحديث هو من رواية ابن عقيل عن محمد بن أسامة بن زيد، والأول وصف بسوء الحفظ خاصة لما كبر، والثاني مجهول كما ذكر بعض الأئمة كالدارقطني. وقد وثقه من لا يُعبئ بتوثيقه لميله لتوثيق المجاهيل من التابعين كابن سعد وابن حبان. والحديث ضعيفٌ ليس بحجة.

وله شاهد عند أبي داود (#4116) والحاكم (4|187) والبيهقي (2|234) عن عباس بن عبيد الله (وقيل عبد الله) بن عباس بن عبد المطلب حدثه عن خالد بن يزيد بن معاوية عن دحية بن خليفة قال: بعثه رسول الله r إلى هرقل. فلما رجع أعطاه رسول الله r قبطية فقال: «اجعل صديعها قميصاً، وأعط صاحبتك صديعاً تختمر به». فلما ولى دعاه قال: «مرها تجعل تحته شيئاً لئلا يصف».

وفيه عدة علل منها الانقطاع بين خالد بن يزيد ودحية. ومنها عباس بن عبيد الله مجهولٌ لم يوثقه غير ابن حبان، وقال ابن القطان الفاسي: «لا يُعرف حاله». ومنها موسى بن جبير ففيه جهالة. وقد وثقه ابن حبان، والذهبي في "الكاشف" (وقد كتبه في أول الطلب). وأما في تهذيب السنن للبيهقي فقال الذهبي: «يخطىء ويخالف». وقال عنه ابن حجر: «مقبول». وقد روى البيهقي (2|234) أثراً موقوفاً على عمر يشهد لما سبق. وإسناده ضعيف: فيحي بن أيوب فيه كلام، وكذلك عبد الله بن أبي سلمة لم يدرك عمر t.

فهذه الأسانيد شديدة الضعف لا تتقوى. ويبقى الأصل فيها الإباحة. هذا بالنسبة للباس الذي تلبسه عادة، وإلا فاللباس الذي يُحجّم العورة ويلاصق الجلد محرم أمام الأجانب. وقال بعض المتشددين بوجوب أن يكون ثوب المرأة فضفاضاً لدرجة حيث لا يظهر إن كانت المرأة نحيفة أم بدينة! وهذا قولٌ بلا دليل، بل هو مخالف للأدلة الشرعية. ومهما كان الثوب واسعاً وفضفاضاً، فلابد أن يصف جسد المرأة. كما قال عمر t لأمنا سودة: «قد عرفناك يا سَوْدة». والقصة في الصحيحين. وقال ابن حجر في فتح الباري (1|249): «نزل الحجاب فتسترن (أي أمهات المؤمنين) بالثياب. لكن كانت أشخاصهن ربما تتميز. ولهذا قال عمر لسودة –في المرة الثانية– بعد نزول الحجاب: "أما والله ما تخفين علينا"».

والبعض اسنتبط التحريم من ذكر الجلباب في سورة النور. وهذا ليس بحجة إذ ليس الجلباب بالضرورة هو الثوب الفضفاض. بل ذكر العلامة ابن منظور في "لسان العرب" معانٍ كثيرة مختلفة لهذه الكلمة، مع عدة أمثلة. وذكر بعض هذه المعاني النووي وابن حجر في شرحهما للصحيح. وإذا تطرق الاحتمال سقط الاستدلال. والأظهر في القرآن والحديث استخدامه بمعنى الخمار وليس الثوب، والله أعلم.

بقي الحديث المشهور: «صنفان من أهل النار لم أرَهُما: قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ لا يَدخُلن الجنة ولا يجِدْنَ ريحها...». قال ابن عبد البر في "التمهيد" (13|204): «وأما معنى قوله: "كاسيات عاريات" فإنه أراد اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يَصِفٌ ولا يستر. فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة، مائلات عن الحق مميلات لأزواجهن عنه...».

وهذا فهم بعيد. فإن التعري في معاجم اللغة هو نزع الثياب والتجرد منها. ومعنى قوله: "كاسيات عاريات" أي أنهن كاسيات من الثياب عاريات من التقوى. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (26) سورة الأعراف. وقوله: {... فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ...} (22) سورة الأعراف. وقوله: {... يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا...} (27) سورة الأعراف. فالمقصود من اللباس هو أن يغطي السوءة، وهي العورة المغلظة. فإذا اللباس لم يغطي العورة، لم يعد لباساً في الحقيقة. ومقصود الشارع من الأمر باللباس هو: الستر وإخفاء ما يثير أعين الرجال إلى النظر. فإذا كان اللباس ضيقاً جداً يجسّم العورة، فهو مما يثير الشهوة، ويجب اجتنابه.

قال ابن العربي: «وإنما جعلهنّ كاسيات لأن الثياب عليهنّ، وإنما وصفهنّ بأنهنّ عاريات لأن الثوب إذا رَقَّ يصفهنّ، ويبدي محاسنهنّ. وذلك حرام». قال القرطبي: «هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني: أنهنّ كاسيات من الثياب عارِياتٌ من لباس التّقْوَى الذي قال الله تعالى فيه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}. وأنشدوا:

 إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقَى * تقلّب عُرْيَاناً وإن كان كاسِيا

وخيُر لباس المرء طاعةُ ربِّه * ولا خيرَ فيمن كان لِلَّه عاصِيا».

وسرد القرطبي أدلة أخرى، ثم قال: «قلت: هذا التأويل (الثاني) أصح التأويلين. وهو اللائق بهنّ في هذه الأزمان، وخاصّةً الشباب، فإنهنّ يتزيّن ويخرجن متبرِّجات. فهُنَّ كاسيات بالثياب عاريات من التّقْوَى حقيقة، ظاهراً وباطناً، حيث تُبْدِي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهنّ. وذلك مشاهَدٌ في الوجود منهنّ. فلو كان عندهنّ شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهنّ في بقيّة الحديث في قوله: «رؤوسهنّ كأسنمة البُخْت». والبُخْت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة. شبَّه رؤوسهنّ بها لما رفعن من ضفائر شعورهنّ على أوساط رؤوسهنّ. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهنّ ملوم...».