صلاة المسافر

أنواع المسافر

إن كان المسافر قد نوى الإقامة المطلقة في بلد، كعقد عمل مثلا، فهذا في حكم المستوطن. وإن كان نوى الإقامة لغرض معين فقط دون تحديد الزمن، بحيث متى انتهى غرضه، عاد إلى وطنه، كمن قدم لمراجعة دائرة حكومية، أو لبيع سلعة، أو لقتال في حرب، فهؤلاء حكمهم حكم المسافرين. والنوع الثالث أن ينوي الإقامة لغرض معين مع تحديد الزمن، وهذا فيه خلاف.

مدة قصر الصلاة في السفر

هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم على أقوال كثيرة تصل إلى أكثر من عشرين قولا، أشهرها إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة، وهو مذهب الحنابلة. وقيل مثل هذا، لكن لا يحسب منها يوم الدخول ويوم الخروج، وهذا مذهب الشافعية والمالكية. وقيل إذا نوى الإقامة أكثر من خمسة عشر يوما أتم، وهو مذهب الحنفية. وأصح الأقوال عندي من قال أنه يقصر ما لم ينو الاستيطان أو الإقامة المطلقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على القائلين بالتحديد (24|37): «فمن جعل للمقام حدا من الأيام: إما ثلاثة، وإما أربعة، وإما عشرة، وإما اثني عشر، وإما خمسة عشر، فإنه قال قولا لا دليل عليه».

والأصل ما جاء في صحيح مسلم (1|479 #688): عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة، إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: «ركعتين. سنة أبي القاسم r». وبهذا جاء عمل الصحابة:

قال ابن أبي شيبة (2|207 #8202): حدثنا وكيع، قال: ثنا المثنى بن سعيد (الضبعي، أبو سعيد، ثقة)، عن أبي جمرة نصر بن عمران (ثقة ثبت)، قال لابن عباس: إنا نطيل القيام بالغزو بخراسان فكيف ترى؟ فقال: «صل ركعتين، وإن أقمت عشر سنين».

قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (4|274 #6148): أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس هو الأصم قال: حدثنا الصغاني (محمد بن إسحاق بن جعفر، ثقة ثبت) قال: حدثنا معاوية بن عمرو (بن المهلب، ثقة)، عن أبي إسحاق الفزاري (ثقة ثبت)، عن عبيد الله بن عمر (ثقة ثبت)، عن نافع، عن ابن عمر قال: «ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، فكنا نصلي ركعتين». وهذا سند قال عنه النووي في خلاصة الأحكام (2|734): «إسناد صحيح على شرط الصحيحين».

وأخرج عبد الرزاق (2|536): #4352 عن هشام بن حسان (ثقة يدلس عن الحسن)، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: «كنا معه في بعض بلاد فارس سنتين، وكان لا يجمع، ولا يزيد على ركعتين». و#4353 عن الثوري، عن يونس (بن عبيد بن دينار، ثبت)، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، مثله. وهذا إسناد صحيح.

وأخرج #4354 عن يحيى بن أبي كثير (ثبت)، عن جعفر بن عبد الله (لا بأس به)، أن: «أنس بن مالك أقام بالشام شهرين مع عبد الملك بن مروان يصلي ركعتين ركعتين». وقد رواه البيهقي في السنن (3|217) من طريق آخر، فهو يقوي هذا.
 

جمع الصلاة في السفر

الجمع فليس مرتبطا بالقصر، فالجمع يجوز للمطر الشديد، ويجوز للحاجة  الشديدة، بينما لا يصح القصر في هاتين الحالتين. والقصر سنة مستحبة (على الراجح خلافا للشافعي)، بينما الجمع ليس مستحباً لكنه رخصة عند الحاجة. وقد تقدم عن ابن سمرة t أنه كان يقصر ولا يجمع. ولعل الراجح أن الجمع يصار إليه عند الترحل، فهنا يكون رخصة، أما عند الإقامة بمكان أثناء السفر، فالأرجح أن لا يجمع وإنما يقصر فقط. قال ابن القيم في الوابل الصيب (ص14): «الجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون وهذا لون».

والجمع بين الصلوات فيه خلاف بين العلماء. وقد نقل ابن المنذر في الأوسط (2|421) إجماع العلماء على: «الجمع بين الظهر والعصر بعرفة يوم عرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع في ليلة النحر. واختلفوا في الجمع بين الصلاتين في سائر الأسفار». ويمكن تلخيص هذا الخلاف (الجمع في السفر) في ثلاثة أقوال:

1-  الجمع لا يجوز إلا لمن جد به السير. قال مالك في المدونة (1|205): «لا يجمع الرجل بين الصلاتين في السفر إلا أن يَجِدَّ به السَّيْر». وهو ما رجحه ابن تيمية فقال في الفتاوى (22|290) عن النبي r: «وما كان يجمع في السفر بين الصلاتين إلا أحيانا عند الحاجة. لم يكن جمعه كقصره. بل القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة».

2- يباح الجمع في كل سفر يقصر فيه، سواء كان سائراً في سفره أم نازلاً بحيث لا تنقطع عنه أحكام السفر. وقال الشافعي في الأم (1|96): «فمن كان له أن يقصُرَ فله أن يجمع». والحجة هو ما رواه مالك في الموطأ (وهو في صحيح مسلم 4|1784 #706) عن أبي الزبير المكي، أن أبا الطفيل عامر بن واثلة، أخبره أن معاذ بن جبل أخبره، قال: «خرجنا مع رسول الله r عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، حتى إذا كان يوما أخّر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعا».

قال ابن قدامة (2|202): «في هذا الحديث أوضح الدلائل، وأقوى الحجج، في الرد على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير؛ لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر، ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعًا، ثم ينصرف إلى خبائه.... والأخذ بهذا الحديث متعين؛ لثبوته وكونه صريحًا في الحكم، ولا معارض له، ولأن الجمع رخصة من رخص السفر، فلم يختص بحالة السير، كالقصر والمسح، ولكن الأفضل التأخير، لأنه أخذ بالاحتياط، وخروج من خلاف القائلين بالجمع، وعمل بالأحاديث كلها».

3- وقال الحنفية: لا جمع بين فرضين في وقت. ولا يجوز إلا الجمع الصوري بتأخير الظهر إلى آخر وقتها, ثم أداء صلاة العصر في أول وقتها، ما عدا الجمع بعرفة ومزدلفة! وهذا تنقضه أحاديث صحيحة، ومخالف للعقل كذلك، لأن أن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا، وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين.

والخلاصة أنه إذا كان المسافر نازلا مستريحا فترك الجمع أفضل، فيصلي كل صلاة في وقتها قصرا. لأن النبي r كان يجمع إذا كان على ظهر سير، أما إذا كان نازلا مستقرا، فالأغلب أنه كان لا يجمع، فيصلي كل صلاة في وقتها. كما فعل في حجة الوداع وهو نازل في الأبطح وفي مِنى، يصلي كل صلاة في وقتها دون جمع. وهذا هو آخر الأمرين منه r. وقد ثبت أنه جمع في غزوة تبوك وهو نازل، كما سلف. وليس عليه أن يستحضر نية الجمع قبل الصلاة، وهو ما رجحه ابن تيمية. وجمع التقديم يجوز قياسا على مزدلفة، وإن كان لا يصح فيه حديث آخر، وجمع التأخير أفضل منه.