الربا في دار الحرب

الأحناف يقسمون الديار إلى: دار إسلام حيث يُحكمُ بها بشرع الله. ودار كفر حيث لا يُحكم بها بشرع الله (ويسمونها ديار الحرب وإن لم يكن بها حرب). ثم يقول الأحناف أن الكافر الحربي حلال الدم والمال (وهو شيء متفق عليه عند الحنفية وعند غيرهم) ولا يمنع منه إلا عهد أو حد شرعي. ومال الحربي في ديار الحرب جائز أخذه برضاه أو بدون رضاه. ولكن الحربي إذا كان مُستأمناً أو إذا كنت أنت مُستأمن في دارهم، لم يجز لك أخذ أموالهم إلا برضاهم. والحنفية لا يجوّزون الخديعة والغصب في هذا الأمر، لا يجوز اخذ مال الحربي إذا دخل ديارنا بأمان أو عهد إلا برضاه. ولا يجوز أخذ مال الحربي في دار الحرب إذا كان المسلم قد دخل ديارهم بأمان، إلا برضاهم. ولا يجوز اخذ أموالهم غصباً، قولا واحداً، لم يخالف في ذلك الحنفية ولا غيرهم. وكل ما سبق متفق عليه بين جميع أهل الإسلام.

ومن هنا فالحنفية جوزوا أخذ الربا من الكافر في دار الكفر إذا كان برضا الحربي. لأن أخذ مال الحربي برضاه جائز بالإجماع. على أن يكون المسلم هو الذي يأخذ المال الفائض. بمعنى لا يجوز له أن يتعامل بالربا إن كان هو متضرراً، كان يقترض بفائدة مثلاً، فهنا الضرر حاصل عليه. ومسألة إباحة الربا في دار الحرب، هو مذهب أبي حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن (وخالفهما أبو يوسف)، وهو مذهب عدد من العراقيين مثل سفيان الثوري (ت 161هـ) (أسنده الطحاوي) وابن المبارك ومن قبلهم إبراهيم النخعي (ت 95هـ)، وهو قول في مذهب الإمام أحمد (انظر شرح الزركشي) مال إليه ابن تيمية. ويُروى أيضاً عن ابن الماجشون من المالكية (ت 212 هـ). وهذا كله في دار الكفر، وإلا ففي دار الإسلام لا يجوز أخذ الربا من الكفار بإجماع أهل الإسلام. والحنفية قد نصوا على هذا، وعلى تحريم الربا كلية في دار الإسلام.

قال إبراهيم النخعي: «لا بأس بالدينار بالدينارين في دار الحرب بين المسلمين وبين أهل الحرب» (أسنده الطحاوي). وقال أبو يوسف في كتابه "الرد على سير الأوزاعي": قال أبو حنيفة: «لو أن مسلما دخل أرض الحرب بأمان فباعهم الدرهم بالدرهمين لم يكن بذلك بأس، لأن أحكام المسلمين لا تجري عليهم، فبأي وجه أخذ أموالهم برضا منهم فهو جائز». ثم قال أبو يوسف: «وأهل الإسلام في قولهم أنهم لم يتقابضوا ذلك حتى يخرجوا إلى دار الإسلام أبطله. ولكنه (أبو حنيفة) كان يقول إذا تقابضوا في دار الحرب قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام فهو مستقيم». فالذي يعطي الدينار هو المسلم لأهل الحرب ويأخذ الدينارين منهم. أما العكس فلا يجوز عندهم، وكل ذلك مختص بدار الكفر. وفي الأمر تفصيل يوضحه الشيخ مصطفى الزرقا فيقول: «لا باس بأخذ قرض من البنك لقاء فائدة لأجلِ شراء بيتٍ نتيجته تملك البيت في نهاية تسديد القرض مع فائدته، بملاحظة أن القرض مع فائدته لا يزيد عن أجرة البيت لو استأجره استئجاراً، بل قد يكون أقل. وهذا مقتضى المذهب الحنفي فيمن يقيم بدار الحرب، لأن العبرة حينئذ لمجموع ما يدفعه المسلم لهم. فإن كان أوفر لماله، فهو جائز ما دام برضاهم ودون خيانة، وإن كان بطريقة محرمة في الإسلام كالربا. والله أعلم».

وعلة التفريق بين ديار الإسلام (وهي كل دار لا تُطبق فيها الشريعة الإسلامية، بغض النظر عن ديانة سكانها) وديار الكفر: هو أن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها في مجتمع لا يلتـزم بالإسلام (وهذه نقطة الخلاف بين الحنفية والجمهور). لأن هذا ليس في سعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وتحريم الربا من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي. وإنما يُطالَب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً، مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والمبررات وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضُيِّق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها وحده عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

قد احتج الطحاوي لمذهبه الحنفي في كتابه "تأويل مشكل الآثار" بحجة عجيبة ألخصها بالآتي:

يرى الطحاوي أن العباس كان قد أسلم في مكة سراً، واستنتج حديث الحجاج بن علاط أن ذلك كان عند غزوة خيبر أو قبلها، ونقل عن ابن إسحاق أن هذا كان منذ معركة بدر. وقد أخرج مسلم (3|1213 #1591) عن فضالة بن عبيد الأنصاري قال: أتي رسول الله r وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله r بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله r: «الذهب بالذهب وزناً بوزن». وعن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي r فقال: «لا تباع حتى تفصل». وعن فضالة بن عبيد قال: كنا مع رسول الله r يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله r: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن». وعن حنش أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر، فأردت أن أشتريها فسألت فضالة بن عبيد فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل. فإني سمعت رسول الله r يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل». فدلت هذه الأحاديث على أن تحريم ربا الفضل كان في غزوة خيبر في سنة سبع من الهجرة.

وفي صحيح مسلم (2|886) أن رسول الله r قال في خطبة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله». قال الطحاوي: «فكان في ذلك ما قد دل على أن الربا قد كان بمكة قائما لما كانت دار حرب حتى فتحت. لأن ذهاب الجاهلية إنما كان بفتحها. وكان في قول رسول الله r: "أول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب". فدل ذلك أن ربا العباس قد كان قائما حتى وضعه رسول الله r. لأنه لا يضع إلا ما قد كان قائما، لا ما قد سقط قبل وضعه إياه. وكان فتح خيبر في سنة سبع من الهجرة، وكان فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة. ففي ذلك ما قد دل أنه قد كان للعباس ربا إلى أن كان فتح مكة، وقد كان مسلما قبل ذلك. وفي ذلك ما قد دل على أن الربا قد كان حلالا بين المسلمين وبين المشركين بمكة لما كانت دار حرب، وهو حينئذ حرام بين المسلمين في دار الإسلام. وفي ذلك ما قد دل على إباحة الربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب كما يقوله أبو حنيفة والثوري».

لكن كلام الطحاوي فيه إشكال وهو أنه لو كان كما قال، لكان وضع ربا العباس في فتح مكة لا في حجة الوداع، وبينهما سنتين. وقد يقال: حديث فضالة في ربا الفضل، وهذا يشمل ربا النسيئة. فنحن نسلّم أن تحريم ربا الفضل كان في غزوة خيبر. لكن ما الدليل على أن ربا النسيئة كان قبل حجة الوداع؟

النتيجة: لا دليل في النصوص الشرعية على ما ذهب إليه الحنفية، فالنزاع يجب أن يكون على الدليل العقلي السابق ذكره. والله أعلم.

وقد وجدت كذلك إشكالاً على مذهبهم، ذلك أنهم لا يقبلون توريث المسلم من الكافر الحربي. مع أن القياس هنا أولى. فإذا كان مال الحربي حلالاً كما يزعمون، فلم لا يجوز أخذ مال الحربي إذا أمكن للمسلم أخذه بطريق الرضا؟! فإن قيل من أجل حديث "لا يرث المسلم الكافر" فهم يقولون بأن المسلم غير مسؤول عن تطبيق الشرائع المالية في ديار الحرب، وهذا منها. وأغرب ما في الأمر أن الأحناف يؤوّلون حديث "لا يقتل مسلم بكافر" بأن الكافر هو الحربي (وهو تأويل في غاية البطلان كما بيّن ابن حزم) ولا يؤوّلون حديث "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"، مع أنه أولى كما ألمح ابن القيم. وقد عاب الشافعي عليهم ذلك التناقض الواضح (انظر كتاب الأم - باب الرد على محمد بن الحسن). فطالما أن الحربي حلال المال، ويجوز في مذهبهم أخذ ماله بالربا، فلماذا لا يرثه المسلم بالوراثة القانونية عن رضا الطرفين؟!

وهذا حديث "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" هو حديث صحيح معروف وهو أصل في هذا الباب. لكن المشكلة هي في فهمهم لهذا الحديث، إذ أن من الصحابة والتابعين من جوّز أن يرث المسلمُ الكافرَ، لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. فنحن نرثهم ولا يرثونا. فلا ينبغي للمسلم أن يترك مالاً -جاءه بطريق مشروع- للكفار يستعينوا به على حرب الدين أو معصية الله. فإذا جاء للمسلم إرثٌ من بعض أقربائه الكفار، يأخذه على أنه مال كافر تحصل له، يصرفه في مصالح المسلمين أو يتمول به هو، ولا يأخذه على أنه إرث. لأن في ذلك إثبات للموالاة بين المسلم والكافر، والله قد قطعها. والفرق بين المال الذي يأخذه المسلم من كافر غير معصوم غصباً أو غنيمة أو يلتقطه كلقطة في دار الحرب، وبين الذي يأخذه كإرث فرق واضح. فالأول كله لا ولاء فيه، بخلاف الإرث الذي هو حق محدد معلوم.