نسخ القرآن بالسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه المسألة اختلف فيها المتقدمون. فمنعها: الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه. وجوزها: أصحاب الإمام أبي حنيفة، ورواية عن الإمام احمد، وغيرهم. وذكر ابن تيمية دليلين لمن يرى جواز وقوعه، وأجاب عنها.

 

الدليل الأول
احتجوا أن الوصية للوالدين والأقربين نسخها قوله
r: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».

الرد على هذا الدليل
هذا غلط! لأن ذلك إنما نسخه آية المواريث كما اتفق على ذلك السلف. فإنه لما قال سبحانه وتعالى بعد ذكر الفرائض {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 13-14). فلما ذكر أن الفرائض المقدرة حدوده ونهى عن تعديها، كان في ذلك بيان أنه لا يجوز أن يزاد على ما فرض الله له. وهذا معنى قوله
r: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث». وإلا فهذا الحديث وحده إنما رواه أبو داود ونحوه من أهل السنن، ليس في الصحيحين. ولو كان من أخبار الآحاد لم يجز أن يُجعل مجرد خبرٍ غير معلوم الصحة ناسخا للقرآن.

 

الدليل الثاني
وقد ذكروا من ذلك قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} (النساء: من الآية15). وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي
r أنه قال: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب والرجم».

الرد على هذا الدليل
وهذه الحجة ضعيفة لوجهين:
أحدهما: أن هذا ليس من النسخ المتنازع فيه. فإن الله مد الحكم إلى غاية، والنبي
r بيّن تلك الغاية. لكن الغاية هنا مجهولة، فصار هذا يقال: أنه نسخ! بخلاف الغاية البينة في نفس الخطاب، كقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: من الآية 187)، فإن هذا لا يسمى نسخاً بلا ريب.
الثاني: أن جلد الزاني ثابت بنص القرآن، وكذلك الرجم كان قد أنزل فيه قران يتلى، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وهو قوله: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم». وقد ثبت الرجم بالسنة المتواترة وإجماع الصحابة. وليس هذا من موارد النـزاع. فإن الإمام الشافعي وأحمد وسائر الأئمة، يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة، وإن تضمنت نسخاً لبعض آي القرآن.

ثم يقول -رحمه الله-: «وبالجملة فلم يثبت أن شيئاً من القران نُسِخ بسنة بلا قرآن». نقلته بتصرف قليل من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20|399).

 

الدليل الثالث

قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ، والمخصص لها قوله r: «إن الميت يعذب ببكاء الحي». أخرجه الشيخان.

 

الرد على هذا الدليل
التخصيص مسألة مختلفة عن النسخ. نعم، السنة تخصص النصوص العامة في الكتاب لأنها شرح له، لكنها لا تنسخ القرآن. والمثال أعلاه لا يستقيم، لأن الميت يعذب نتيجة لتأثره ببكاء الحي، أي يحزن بحزنهم، وليس أن الله يعذبه بذنبهم!