الاِرْتِثَاثُ
حكم الذي يستشهد خارج المعركة

مَنْ أُصيب في الحرب وبَقي حياً في مكانه، ولم يُنقل حتى مات، وكان ذلك قبل انتهاء المعركة، فإنه شهيد في أحكام الدنيا والآخرة، سواءٌ أكلَ أو شربَ أو تكلمَ، طالتِ المعركة أم قصرت. لذلك يُدفن بدمه وثوبه دون غسل أو كفن. هذا شبه إجماع، لحديث «ادفنوهم في دمائهم» -يعني يوم أحد- ولم يغسلهم (بخاري #1346). لكن أن يحمل الجريح من المعركة، وهو ضعيف قد أثخنته الجراح، فيعيش حياة مستقرة، ثم يموت بعد ذلك متأثراً بجراحه، فهذا يسمى بالارتثاث، ومن يحصل له هذا يسمى "المُرتَث".

وفسّر الكاساني الحياة المستقرة بقوله في بدائع الصنائع (1|321): «من حُمِل من المعركة مستقر الحياة، بأنْ تكلم، أو أكلَ أو شربَ، أو نامَ، أو باعَ أو ابتاعَ، أو طال بقاؤه عُرفاً، ثم مات بعد ذلك». والمرتث لا تنطبق عليه أحكام الشهيد في الدنيا، فيُغسَّل ويُكفّن ويُصلى عليه، ولكنه يأخذ ثواب الشهداء في الآخرة.

لذلك فالحكم الراجح أن المجاهد في سبيل الله إذا وُجِدَ في أرض المعركة (مسرح العمليات) بعد انتهاء القتال وبه رمق حياة، ولو تكلم أو أكل أو شرب أو نقل من المعركة ثم مات بعد ذلك بزمن قصير عرفا، فإنه شهيد معركة: لا يغسل ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه التي قتل فيها. وإلا كان مرتثاً فيجب غسله وتكفينه. وفي هذا الشروط بعض الخلاف.

وقال ابن حزم الظاهري في المحلى (3|336): «فإنْ حُمل عن المعركة وهو حيٌّ فمات: غُسّل وكُفنّ وصُلي عليه». فجعل مجرد حمله دليلا على ارتثاثه، وفي هذا نظر سيأتي الرد عليه.

وجاء في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ص138 #511): «قلت من قُتِلَ فِي المعركة وَبِه رَمق (يقصد حياة مستقرة) حُمِلَ؟ قال: يُغسل. وَمن قُتل ولا رَمق فيهِ يُدْفن في ثيابه، يُلف في دمائه إِلَّا أن يكون عليهِ جِلد أو خف، يُنْزع ذلك عنهُ. وإن كان عليه سرد؟ قَالَ: يُعجبنِي أَن ينْزع عَنهُ الْحَدِيد». والسرد يقابله في زماننا الدرع، والحديد تقابله الخوذة والسلاح والذخيرة. ولا بأس بنزع الساعة قياسا على الخاتم. وقد قال بعض السلف بنزع الخف (الحذاء) كذلك.

وقال أبو حنيفة كما نص تلميذه محمد في الحجة على أهل المدينة (1|359): «فِي الشَّهِيد يقتل فِي المعركة: يدْفن فِي دَمه وثيابه وَلَا يغسل، إلا أنه ينْزع عَنهُ الْجلد وَالسِّلَاح وَيزِيدُونَ مَا شاؤا وينقصون مَا شاؤا».

وقال مالك في الموطأ (2|463 #37): «وأما من حُمِلَ منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك، فإنه يُغَسَّلُ ويصلى عليه. كما عُمِلَ بعمر بن الخطاب».

وقال السرخسي من الأحناف في المبسوط (2|51): «وإن حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال، غسل لأنه صار مرتثا. وقد ورد الأثر بغسل المرتث».

وهذا كله محل إجماع بين العلماء. قال ابن عبد البر في الاستذكار (5|120): «وأجمع العلماء على أن الشهيد في معترك الكفار، إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل وشرب، فإنه يغسل ويصلى عليه كما فعل بعمر وبعلي (رضوان الله عليهما)».

وجاء في الموسوعة الفقهية عن المرتث (3|8): «وهو –وإن لم يكن شهيداً في حكم الدنيا– فهو شهيدٌ في حق الثواب، حتى إنه ينال ثواب الشهداء. وهذا باتفاق ٍفيمن مات بعد المعركة مع الكفار. أما المرتث من البغاة، أو أهل العدل في المعارك بينهم، ففيه خلاف الفقهاء من حيث الغسل والصلاة».

وأدلة ذلك:

ما جاء في الصحيحين من قصة سعد بن معاذ أنه قد أصيب في الأكحل، وأقيمت له خيمة في المسجد، ثم انفتح جرحه فمات شهيداً. وليس في القصة أنه غُسّل. وقصة تغسيله أخرجها ابن سعد في الطبقات (3|326 ط العلمية): أخبرنا الفضل بن دكين قال: أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل (لين) عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد، وفيها: «فانتهى رسول الله (ص) إلى البيت وهو يُغَسّل وأمه تبكيه». وهذا الإسناد ضعيف، وقد رواها غير ابن الغسيل عن عاصم، دون تلك الزيادة. فلا حجة في هذه القصة.

ثم الاستدلال بهذه القصة –لو صحت– فيه نظر. يقول ابن عثيمين عنها: «إن الدليل لا يطابق المدلول، إلا إذا فصلنا وقلنا إذا كان جرحه موحياً بمعنى أنه مميت لا يمكن أن يحيا معه. فهذا لا شك أنه في حكم من مات في المعركة ولو حمل. فلو حمل مثلاً إلى مستشفى وقد تقطعت أوصاله وأمعاؤه لكن الرجل حي، فهل نقول إن هذا كقضية سعد بن معاذ؟ لا، فلا يصح الاستدلال».

ومن الأدلة ما رواه مالك (2|463) عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب «غُسّل وكُفّن وصُلّي عليه، وكان شهيداً». وهذا إسناده غاية في الصحة. وقد روى يحيى بن الجزار تغسيل علي، لكنه لم يسمع منه كما نص أحمد.

بقيت مسألة هامة، وهي ما هو الحد الذي نجعل به الشهيد مرتثا؟ هل مدة حياته بعد الإصابة؟ أم هل الأكل والشرب؟ أم حتى انتهاء المعركة؟

قال ابن قدامة في المغني (2|397): «والصحيح: التحديد بطول الفصل، أو الأكل؛ لأن الأكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة، وطول الفصل يدل على ذلك، وقد ثبت اعتباره في كثير من المواضع. وأما الكلام والشرب، وحالة الحرب، فلا يصح التحديد بشيء منها».

أقول: وطول الفصل هو محدود بالعرف، والله أعلم. قال ابن عثيمين: «إذا حمل الشهيد وبه رمق، ولكن هذا الجرح مما يقتل غالباً يعني أنه جرح موحي، فينبغي أن يُلحق بحكم من مات في أرض المعركة».

ولا فرق فيمن قتله الكفار أو من قتله البغاة، كما جاء في معركة صفين. قال ابن قدامة: «ومن قتل من أهل العدل في المعركة، فحكمه في الغسل والصلاة عليه، حكم من قتل في معركة المشركين؛ لأن عليا لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى أن لا يغسل، وقال: ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم. قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل: إنا مستشهدون غدا، فلا تنزعوا عنا ثوبا، ولا تغسلوا عنا دما. ولأنه شهيد المعركة، أشبه قتيل الكفار».

قلت: أثر عمار رواه ابن سعد في الطبقات (3|198) ولا يصح لأن يحيى بن عابس مستور. وقد اختلف العلماء في حكم من قتله البغاة، فذهب البعض إلى أن عدم التغسيل هو فيمن قتلهم المشركون خاصة لحديث شهداء أحد. وذهب الآخرون لأن هذا الحكم هو في كل شهيد، حتى فيمن قتله اللصوص لحديث «من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد». وعلى ذلك أيضا، لا فرق في كيفية القتل، سواء بالرصاص أم بالقصف أم بالمفخخات أم بغير ذلك. وقد قال أبو حنيفة كما في الجامع الصغير: «فِي مُسلم قَتله اهل الْحَرْب اَوْ اهل الْبَغي اَوْ قطاع الطَّرِيق فَبِأَي شَيْء قَتَلُوهُ لم يغسل وَمن وجد فِي المعركة قَتِيلا لم يغسل».

ومن قُتل بالمعركة بالخطأ، أو أنه قتل نفسه خطأ مثلما حصل مع عامر بن الأكوع، كأن يرجع عليه رصاصه أو تنفجر به عبوته، فهذا كقتيل الكفار، ولا يفرد عن الشهداء بحكم.

ومن شهد المعركة من رجال أو نساء أو أطفال ثم قتل في المعركة فهو شهيد لا يغسّل. وفي هذا خلاف. وإن وجد ميتا دون أن يتبين سبب له، فهنا قال أبو حنيفة وأحمد بأنه يغسل لأنه ربما مات لسبب طبيعي، وقال الشافعي أنه يغسل لاحتمال أنه مات لسبب من أسباب القتال.

وهنا تبرز مسألة أخرى، وهي المدينة الآمنة التي يطالها قصف العدو فيموت فيها أناس لا دخل لهم في الحرب فهل يعدون شهداء؟ والذي يبدو لي أن هذا فيه تفصيل. فمن كان جنديا محاربا، ثم تم قصف مقره مثلا، أو تم اغتياله من العدو، فهذا شهيد لا يغسل. وهذا مثل عثمان بن عفان. أما شخص مدني لم يكن يقاتل ولا كان على أرض المعركة، فهذا شهيد في الآخرة فقط. والسبب أن قتيل المعركة هو الذي عرّض نفسه للقتل باختياره دفاعاً عن الإسلام، بينما والمقتول ظلماً من غير أن يقاتل وضعه مختلف جدا.

ولا يؤثر إن كان الشهيد جنبا، لأن حكم غسل الجنابة تكليف يسقط بالموت.

اللهم كن للمسلمين في الشام عوناً ونصيراً ومؤيداً وظهيراً، اللهم وتقبل شهداءهم، وداوِ جرحاهم، واشف مرضاهم، إنك سميع قريب مجيب.