حكم قول الصحابي "كنا نفعل كذا" وقوله "من السنة كذا"

 

مذهب جماهير المتقدمين أنه مرفوعٌ مطلقاً. قال ابن حجر في النكت (2|515-530): «وهو الذي اعتمده الشيخان في صحيحهما وأكثر منه البخاري». وكذلك قول الصحابي «كان يقال: كذا»، و «كانوا لا يفعلون: كذا»، و «كنا نؤمر: بكذا»، له حكم الرفع، ولو لم يُصرّح بإضافته إلى زمن النبي r، تماماً كقول الصحابي "أمرنا رسول الله r بكذا ونهانا عن كذا". وقد حكى الحاكم الإجماع على ذلك فقال في "الجنائز" من "المستدرك": «أجمعوا على أن قول الصحابي t "السنة كذا" حديثٌ مسند».

 وقد اتفق الشافعية على أن هذا هو مذهب إمامهم في القديم، لكن بعض متكلميهم قد شغب وزعم تراجع الإمام الشافعي في الجديد عنه. لكن نص الشافعي في "الأم" –وهو من الكتب الجديدة– على مذهب الجمهور. فقال في "باب عدد الكفن" –بعد ذكر ابن عباس والضحاك بن قيس–: «رجلان من أصحاب النبي r: لا يقولان "السنة" إلا لسنة رسول الله r إن شاء الله». وقد حكى البيهقي –وهو من أعلم الناس بالشافعي– الإجماع على ذلك. قال البيهقي: «لا خلاف بين أهل النقل أن الصحابي t إذا قال: "أُمِرنا" أو "نُهينا" أو "من السنة كذا"، أنه يكون حديثاً مسنداً».

لكن أبا بكر البرقاني قد نقل عن شيخه أبي بكر الإسماعيلي: أنه من قبيل الموقوف. والحق أنه موقوفٌ لفظاً، مرفوعٌ حُكماً، لأن الصحابي أورده في مقام الاحتجاج، فيُحمل على أنه أراد كونه في زمن النبي r. فلا يكون قول الإسماعيلي خارقاً للإجماع.

لكن خالف هذا الإجماع الظاهرية –على عادتهم في خرق الإجماع– وعدد من الأصوليين مثل أبي الحسن الكرخي من الحنفية. وعلل ذلك بأنه متردد كونه مضافاً إلى النبي r أو إلى أمر القرآن أو الأمة أو بعض الأئمة أو القياس أو الاستنباط، وسوَّغ إضافته إلى صاحب الشرع بناء على أن القياس مأمورٌ باتباعه من الشارع. قال: وهذه الاحتمالات تمنع كونه مرفوعاً.

وأجيب بأن هذه الاحتمالات بعيدة، لأن أمر الكتاب ظاهر للكل فلا يختص بمعرفته الواحد دون غيره. وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع، لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه من النبي r. وأمر الأمة لا يمكن الحمل عليه، لأنهم لا يأمرون أنفسهم. وبعض الأئمة إن أراد الصحابة فبعيد، لأنه قوله ليس بحجة على غيره منهم. وإن أراد من الخلفاء فكذلك، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع بهذا الكلام فيجب حمله على من صدر عنه الشرع. وأما حمله على القياس والاستنباط فبعيد، لأن قوله: "أمرنا بكذا" يفهم منه حقيقة الأمر، لا خصوص الأمر باتباع القياس.

ومما يؤيد حكم الرفع أن مطلق قول الصحابي ينصرف بظاهره إلى من له الأمر والنهي ومن يجب اتباع سنته وهو رسول الله r. كما أن مقصود الصحابي بيان الشرع، لا اللغة ولا العادة. والشرع يتلقى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ولا يصح أن يريد أمر الكتاب لكون ما في الكتاب مشهوراً يعرفه الناس، ولا الإجماع لأن المتكلم بهذا من أهل الإجماع، ويستحيل أمره نفسه، ولا القياس إذ لا أمر فيه. فتعين كون المراد أمر الرسول r. فالصحابي إذا قال "أمِرنا بكذا"، فإنما يقصد الاحتجاج لإثبات شرع وتحليل وتحريم وحكم، يجب كونه مشروعاً. وقد ثبت أنه لا يجب بأمر الأئمة والعلماء، تحليلٌ ولا تحريم، إذا لم يكن ذلك أمراً عن الله ورسوله.

قال الخطيب في "الكفاية": «وهذه الدلالة بعينها، توجب حمل قوله "من السنة كذا" على أنها سنة الرسول r. فإن قيل هل تفصلون بين قول الصحابي ذلك في زمن النبي r وبين قوله بعد وفاته؟ قيل: لا، لأنا لا نعرف أحداً فصل بين ذلك». ودلالة ذلك أيضاً أن إسناد ذلك إلى سنة النبي r هو المتبادر إلى الفهم، فالحمل عليه أولى. والظاهر من مقصود الصحابي t عنه إنما هو بيان الشريعة ونقلها، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع.

وما يؤيد مذهب الجمهور: ما رواه البخاري في صحيحه (#1579) تعليقاً من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر t أن الحجاج سأل عبد الله بن عمر t: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: «إن كنت تريد السُّنة، فهجر بالصلاة يوم عرفة». فقال ابن عمر t: «صدق. إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنَّة». قال الزهري: فقلت لسالم: أفعله رسول الله r؟ قال: «وهل تتبعون في ذلك  إلا سنته r؟». قال السيوطي: «فنقل سالم –وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة– أنهم إذا أطلقوا السنة، لا يريدون بذلك إلا سنة النبي r».

وقد شغب ابن حزم فزعم أن قول الصحابي t "من السنة كذا" ليس بمرفوع، بما في البخاري من حديث ابن عمر t، قال: «أليس حسبكم سنة نبيكم r إن حبس أحدكم في الحج فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً». قال ابن حزم: «لا خلاف بين أحدٍ من الأمة أنه r إذ صُد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة، بل حيث كان بالحديبية. وإن هذا الذي ذكره ابن عمر t لم يقع منه قط». قال ابن حجر متعقباً: «إن أراد بأنه: لم يقع من فعله، فمُسَلَّمٌ، ولا يفيده. وإن أراد: لم يقع من قوله، فممنوع. وما المانع منه؟! بل الدائرة أوسع من القول أو الفعل وغيرهما. وبه ينتقض استدلاله، ويستمر ما كان على ما كان».

وقال ابن حجر: «لم يتعرض ابن الصلاح إلى بيان حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان، كقول ابن مسعود t: «من أتى عرافاً أو كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على  قلب  محمد r». وفي رواية: «بما أنزل الله على محمد r». وكقول أبي هريرة t: «ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله r». وقوله في الخارج من المسجد بعد الأذان: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم r». وقول عمار بن ياسر t: «من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم r». فهذا ظاهره أن له حكم الرفع، ويحتمل أن يكون موقوفاً لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد. والأول أظهر، بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند. وبذلك جزم الحاكم في علوم الحديث».