فضل خروج المرأة من بيتها إلى المسجد

قال الإمام ابن حزم الأندلسي في المحلى (4\198): «والآثار في حضور النساء صلاة الجماعة مع رسول الله r متواترة في غاية الصحة، لا ينكر ذلك إلا جاهل». وسرد بعض تلك الأحاديث ومنها ما اتفق عليه الشيخان. ثم قال: «فما كان –عليه السلام– ليدعهنّ يتكلّفن الخروج في الليل والغلس يحمِلن صغارهنّ، ويفرد لهنّ باباً، ويأمر بخروج الأبكار وغير الأبكار ومن لا جلباب لها فتستعير جلباباً إلى المصلى، فيتركهن يتكلّفن من ذلك ما يحطّ أجورهن، ويكون الفضل لهن في تركه؟! هذا لا يظنه بناصح للمسلمين إلا عديم عقلٍ، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الذي أخبر تعالى أنه {عزيزٌ عليه ما عَنِتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}». وقد أخرج مسلم في صحيحه (3\1472) قوله r: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم».

وقال كذلك في المحلى (3\132): «لو كانت صلاتهن في بيوتهن أفضل، لما تركهن رسول الله r يتعنين بتعب لا يجدي عليهن زيادة فضل أو يحطهن من الفضل. وهذا ليس نصحاً، وهو عليه السلام يقول: "الدين النصيحة"، وحاشا له عليه السلام من ذلك. بل هو أنصح الخلق لأمته. ولو كان ذلك، لما افترض عليه السلام أن لا يمنعهن، ولما أمرهنّ بالخروج تفلات. وأقل هذا أن يكون أمر ندبٍ وحض».

أما من يرى تحريم خروج المرأة للصلاة في المسجد فيستدلّ بما أخرجه مسلم عن أمنا عائشة t قالت: «لو أن رسول الله r رأى ما أحدث النساء، لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل».

قال الإمام ابن حزم: «وهذا لا حجة فيه لوجوه ثمانية: أولها: أن الله تعالى باعث محمد r بالحق موجب دينه إلى يوم القيامة الموحي إليه بأن لا يمنع النساء –حرائرهن وإماءهن، ذوات الأزواج وغيرهن– من المساجد ليلاً ونهاراً. قد عَلِمَ ما يُحدِث النساء، فلم يُحدِث تعالى لذلك منعاً لهن، ولا قال له: "إذا أحدثن فامنعوهن". والثاني: أنه –عليه السلام–، لو صحّ أنه لو أدرك أحداثهن لمنعهن، لما كان ذلك مبيحاً منعهن. لأنه –عليه السلام– لم يدرك فلم يمنع، فلا يحل المنع، إذ لم يأمر به –عليه السلام–. والثالث: أن من الكبائر نسخ شريعة مات –عليه السلام– ولم ينسخها، بل هو كفرٌ مجرَّد. والرابع: أنه لا حجة في قول أحد بعده –عليه السلام–. والخامس: أن عائشة r لم تقل: "إن منعهن لكم مباح"، بل منعت منه (قلت: ليس في كلامها أصلاً أنها منعت منه، وإنما ظنت أنه قد كن سيمنعن). وإنما أخبرت ظناً منها بأمرٍ لم يكن ولا تم. فهم مخالفون لها في ذلك. والسادس: أنه لا حدث منهنّ أعظم من الزنى. وقد كان فيهن على عهد رسول الله r. وقد نهاهن الله تعالى: عن التبرج، وأن {يَضرِبنَ بأرجُلِهنّ ليُعلم ما يخفين من زينتهن}. وأنذر –عليه السلام– بنساءٍ كاسياتٍ عارياتٍ مائلاتٍ مميلاتٍ رءوسهنّ كأسنِمة البخت لا يرحن رائحة الجنة. وعلم أنهنّ سيكنّ بعده، فما منعهن من أجل ذلك. والسابع: أنه لا يحلّ عِقابُ من لم يُحدِث من أجل من أحدث! فمن الباطل أن يمنع من لم يحدث من أجل من أحدث، والله تعالى يقول: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}. والثامن: أنهم لا يختلفون في أنه لا يحل منعهنّ من التزاور، ومن الصفق في الأسواق، والخروج في حاجاتهن. وليس في الضلال والباطل أكثر من إطلاقهن على كل ذلك –وقد أحدث منهن من أحدث–، وتخصّ صلاتهن في المسجد الذي هو أفضل الأعمال بعد التوحيد بالمنع. حاشا لله من هذا. وما ندري كيف ينطلق لسان من يعقل بالاحتجاج بمثل هذا في خلاف السنن الثابتة المتواترة».

وقال أيضاً: «أما ما حدثت به عائشة فلا حجة فيه لوجوه: أولها: أنه –عليه السلام– لم يدرك ما أحدثن، فلم يمنعهن، فإذ لم يمنعهن فمنعهن بدعة وخطأ. وهذا كما قال تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكنّ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ يضاعَف لها العذابُ ضِعفين}: فما أتين قط بفاحشةٍ ولا ضوعف لهن العذاب، والحمد لله رب العالمين. وكقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}: فلم يؤمنوا، فلم يفتح عليهم. وما نعلم احتجاجاً أسخف من احتجاج من يحتج بقول قائل: "لو كان كذا: لكان كذا"، على إيجاب ما لم يكن. الشيء الذي لو كان لكان ذلك الآخر؟ ووجه ثان: وهو أن الله تعالى قد علم ما يحدث النساء، ومن أنكر هذا فقد كفر. فلم يوحِ قطّ إلى نبيه r بمنعهنّ من أجل ما استحدثنه، ولا أوحى تعالى قط إليه: أخبر الناس إذا أحدث النساء فامنعوهن من المساجد. فإذ لم يفعل الله تعالى هذا، فالتعلق بمثل هذا القول هجنة وخطأ. ووجه ثالث: وهو أننا ما ندري ما أحدث النساء، مما لم يحدثن في عهد رسول الله r. ولا شيء أعظم في إحداثهن من الزنى، فقد كان ذلك على عهد رسول الله r ورَجَمَ فيه وجَلَد. فما منع النساء من أجل ذلك قط. وتحريم الزنى على الرجال كتحريمه على النساء ولا فرق. فما الذي جعل الزنى سبباً يمنعهنّ من المساجد؟ ولم يجعله سبباً إلى منع الرجال من المساجد؟ هذا تعليلٌ ما رضيه الله تعالى قط، ولا رسوله r. ووجهٌ رابع: وهو أن الإحداث إنما هو لبعض النساء –بلا شك– دون بعض. ومن المحال منع الخير عمن لم يُحدِث من أجل من أحدث، إلا أن يأتي بذلك نصٌّ من الله تعالى على لسان رسوله r، فيُسمَعُ له ويطاع. وقد قال تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزِرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى}. ووجهٌ خامسٌ: وهو أنه إن كان الإحداث سبباً إلى منعهنّ من المسجد، فالأَولى أن يكون سبباً إلى منعهن من السوق، ومن كل طريق بلا شك. فلِمَ خصّ –هؤلاء القوم– منعهنّ من المسجد من أجل إحداثهن، دون منعهن من سائر الطرق؟ بل قد أباح لها أبو حنيفة السفر وحدها، والمسير في الفيافي والفلوات مسافة يومين ونصف، ولم يكره لها ذلك. وهكذا فليكن التخليط. ووجه سادس: وهو أن عائشة t لم تر منعهن من أجل ذلك، ولا قالت: "امنعوهنّ لما أحدَثن". بل أخبرت أنه –عليه السلام– لو عاش لمنعهن. وهذا هو نَصُّ قولنا. ونحن نقول: لو منعهن –عليه السلام– لمنعناهن. فإذ لم يمنعهن فلا نمنعهن. فما حصلوا إلا على خلاف السنن، وخلاف عائشة r، والكذب بإيهامهم من يقلدهم: أنها منعت من خروج النساء بكلامها ذلك، وهي لم تفعل. نعوذ بالله من الخذلان».

وأدلة فضل صلاة الجماعة للمرأة في المسجد على صلاتها في البيت، كثيرة متواترة صحيحة مشهورة، منها:

أخرج البخاري صحيحه (1\305): عن ابن عمر قال: كانت امرأةٌ لعُمَر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد. فقيل لها: لِمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله r: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».

وأخرج مسلم في صحيحه (#442) عن سالم أن عبد الله بن عمر t قال: سمعت رسول الله r يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها». فقال (ابنه) بلال بن عبد الله: «والله لنمنعهن». قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبَّاً سيّئاً ما سمعته سَبّه مثله قط (وفي رواية أخرى أنه ضربه في صدره أيضاً)، وقال: «أخبرك عن رسول الله r، وتقول: والله لنمنعهن؟!».

وأخرج مسلم في صحيحه عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله r أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور (أي سائر أصناف النساء). فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين». قلت: «يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب». قال: «لتلبسها أختها من جلبابها». وقد أخرج البخاري في صحيحه عن حفصة بنت سيرين قالت: «كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد...». ثم ذكرت قصة فيها أنها سألت أم عطية t فأجابتها بالحديث السابق.

فكلمة "أَمَرَنا" صريحةٌ في أن خروج النساء لصلاة العيد فرضٌ واجبٌ لا ريب فيه. وهو صريحٌ في عدم جواز منع الشابات من أن يخرجن يوم العيد كما حدث مع حفصة بنت سيرين. والأمر صريحٌ واضحٌ بأن لا يمنع الزوج امرأته من الخروج إلى المساجد. فمن منعهن فهو مبتدعٌ عاصٍ لله، يستحق الشتم والسبَّ الشديد والضرب، كما فعل ابن عمر t مع ابنه. وقول البعض أن الخروج هذا خاصٌ بالعجائز باطل مردود، لم يأت عليه أي دليل من كتاب ولا سنة ولا قول صحابي. بل إن قول حفصة «كنا نمنع جوارينا...» صريحٌ في أنها تقصد الشابات الصغيرات، فأخبرتها الصحابية الجليلة أم عطية بنهي رسول الله r عن ذلك.

قال ابن حزم في المحلى (3\134): «وقال بعضهم (يقصد الطحاوي): لعل أمر رسول الله r بخروجهن يوم العيد إنما كان إرهابا للعدو لقلة المسلمين يومئذ ليكثروا في عين من يراهم. قال ابن حزم: وهذه عظيمة، لأنها كذبة على رسول الله r وقولٌ بلا علم. وهو –عليه السلام– قد بيّن أنّ أمْرَهُ بخروجهن، ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى. فأفٍّ لمن كَذَّبَ قول النبي r وافترى كذبة برأيه. ثم إن هذا القول –مع كونه كذباً بحتاً– فهو باردٌ سخيفٌ جداً. لأنه –عليه السلام– لم يكن بحضرة عسكر فيُرهب عليهم، ولم يكن معه عدو إلا المنافقون ويهود المدينة، الذين يدرون أنهنّ نساء. فاعجبوا لهذا التخليط».

واحتج خصومنا بأحاديث ضعيفة وموضوعة يريدون أن يعارضوا بها الأحاديث الصحيح المتواترة. فمن بعض تلك المناكير التي احتجوا بها:

·   أخرج البيهقي وابن أبي شيبة عن عبد الحميد بن المنذر بن أبي حميد الساعدي عن أبيه (مجهول) عن جدته أم حميد أنها قالت: «يا رسول الله. إنا نحب الصلاة (أي النافلة) –تعني معك– فيمنعنا أزواجنا». فقال رسول الله r: «صلاتكن في بيوتكن خير من صلاتكن في دوركن. وصلاتكن في دوركن أفضل من صلاتكن في مسجد الجماعة». والحديث قال عنه الإمام ابن حزم: «خبرٌ موضوع».

·   أخرج أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم عن الوليد بن عبد الله بن جُميع (ضعيف)، عن َجًدته ليلى بنت مالك (مجهولة) وعن عبد الرحمان بن خلاد الأنصاري (مجهول)، عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث: «أن رسول الله (ص) جعل لها مؤذناً يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها (زاد ابن خزيمة والحاكم:) في الفريضة». قال ابن القطان: جدة الوليد بن جميع وعبد الرحمن بن خلاد لا يعرف حالهما. وقال ابن حجر عن ليلى: لا تعرف. وقال عن ابن خلاد: مجهول الحال. قلت: بل مجهول العين، إذ لم يرو عنه ثقة، ولا يعرف إلا بغير هذا الحديث. والخبر موضوع بلا ريب، لثبوت الإجماع على بطلان إمامة المرأة للرجال في الفرائض. جاء في مراتب الإجماع (ص27) وفي الإقناع في مسائل الإجماع (1|406): واتفقوا أن المرأة لا تؤُمُّ الرجالَ وهم يعلمون أنها امرأة. وإن فعلوا فصلاتُهم فاسدةٌ بإجماع.

·   وأخرج أحمد عن داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري (الخطمي وليس الحارثي) عن عمته امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي r فقالت: «يا رسول الله r، إني أحب الصلاة (أي النافلة) معك». فقال: «قد علمت انك تحبين الصلاة معي. وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك. وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك. وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك. وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي». فأمَرَت، فبُنِيَ لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل. قلت: لا نعلم لداود سماعاً من ابن سويد. وليس له في الكتب التسعة رواية عنه إلا هذه. و عبد الله بن سويد الأنصاري هو غير الحارثي (الصحابي). وهذا الأنصاري ذكره البخاري (5\109) وأبي حاتم (5\66) بدون جرح أو تعديل، فهو مجهولٌ عندهما. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين (5\59) على عادته في توثيق المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا واحد.

·   وقال ابن خزيمة في صحيحه (3\96): وروى عبد الله بن جعفر (بن نجيح السعدي، ضعيفٌ مُنكَر الحديث جداً) –وفي القلب منه رحمه الله– قال: أخبرنا محمد بن عمرو (فيه كلام عن أبي سلمة) عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «إن أحب صلاة تصليها المرأة إلى الله، أن تصلي في أشد مكان من بيتها ظلمة». حدثناه علي بن حجر نا عبد الله بن جعفر. أهـ. أقول: هذا حديثٌ موضوعٌ لذلك لم يصححه ابن خزيمة وأخّر السند عن المتن.

وشكّك ابن خزيمة في صحة كل أحاديث الباب. فقد قال في صحيحه (3\92): «باب اختيار صلاة المرأة في بيتها على صلاتها في المسجد، إن ثبت الخبر! (وهذه الجملة لا أراه يستعملها إلا مع الأخبار الضعيفة، علماً أنه متساهل في التصحيح والتوثيق). فإني لا اعرف السائب مولى أم سلمة بعَدالةٍ ولا جرح. ولا أقف على سماع حبيب بن أبي ثابت (شديد التدليس) هذا الخبر من ابن عمر. ولا هل سمع قتادة (مدلّس) خبره من مورق عن أبي الأحوص أم لا. بل كأني لا أشك أن قتادة لم يسمع من أبي الأحوص». وسرد بعض تلك المناكير:

·   عن عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح (متروك) حدثه عن السائب مولى أم سلمة (مجهول) عن أم سلمة زوج النبي r عن النبي صلى r قال: «خير مساجد النساء قعر بيوت».

·   عن حبيب بن أبي ثابت (منقطعاً) عن ابن عمر قال: قال رسول الله r: «لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن». قلت: وزيادة "وبيوتهن خيرٌ لهن" شاذّةٌ مخالفةٌ للحديث الذي في الصحيحين، ومناقضة لأصل الحديث ولضرب ابن عمر لولده.

·   عن إبراهيم بن مسلم الهجري (ضعيف) عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: «ما صلّت امرأة صلاة أحب إلى الله من صلاتها في أشد مكان في بيتها ظلمة». وهذا قد رواه عن الهجري مرفوعاً، أبو معاوية (وهو يخطئ عن غير الأعمش) وعلي بن مسهر (ثقة في الأصل، لكن ذهب بصره فكان يحدثهم من حفظه فيخطئ كثيراً). والصواب أنه موقوف كما رواه –عند البيهقي– جعفر بن عون (ثقة) عن الهجري. وكيفما روي هذا الحديث فهو ضعيف لضعف الهجري.

وقال ابن خزيمة في صحيحه (3\94): «وانما شكّكْت –أيضاً– في صِحّته، لأني لا أقف على سماع قتادة هذا الخبر من مُوَرِّق». ثم قال: «باب اختيار صلاة المرأة في بيتها على صلاتها في حجرتها، إن كان قتادة سمع هذا الخبر من مورق».

·   ثم روى (هو وغيره) عن قَتادة عن مورق العجلي عن أبي الأحْوَص عن عبد الله مرفوعاً: «إنما المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها. وصلاة المرأة في مَخدعها أفضل من صلاتها في بيتها. وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها». قلت: لم يسمع قتادة (مدلّس من الثالثة) هذا الحديث من مورّق. ولا أعلم له سماعاً منه. وروايته عن مورّق، ورواية مورّق عن أبي الأحوص، قليلة جداً. لكن الحديث قد روي –قريباً من هذا اللفظ– عن أبي الأحوص موقوفاً على ابن مسعود، وهو الصواب. وليس في الحديث ذكر المسجد في أيّ حال.

·   وأخرج الطبراني في الأوسط (9\48): عن زيد بن المهاجر بن قنفذ (مجهول) عن أم سلمة زوج النبي r مرفوعاً: «صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها خير من صلاتها خارج». وهذا باطلٌ لا يصح البتة.

·   وعن أم سلمة t مرفوعاً: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن». رواه الطبراني في الكبير، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف الحفظ والعقل يقبل التلقين ويحدّث بالمناكير.

·   سنن البيهقي الكبرى (3\132) من طريق ضعيف عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة (ضعيف جداً كثير الإرسال) عن القاسم بن محمد عن أمنا عائشة t مرفوعاً: «لأن تصلي المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها ولأن تصلي في حجرتها خير لها من أن تصلي في الدار ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد».

·   وجاء عن جرير بن أيوب (يضع الحديث) عن أبي زرعة بن عمرو عن أبي هريرة مرفوعاً: «صلاة المرأة في مخدعها أعظم لأجرها من أن تصلي في بيتها ولأن تصلي في بيتها أعظم لأجرها من أن تصلي في دارها ولأن تصلي في دارها أعظم لأجرها من أن تصلي في مسجد قومها ولأن تصلي في مسجد قومها أعظم لأجرها من أن تصلي في مسجد الجماعة ولأن تصلي في الجماعة أعظم لأجرها من الخروج يوم الخروج».

وهذه الأحاديث كلها ضعيفة جداً أو موضوعة، لا يصحّ منها شيءٌ أبداً. ولو فرضنا صحة واحدٍ منها، فهو متعارضٌ بصراحة مع النصوص المتواترة الصحيحة الثابتة في خروج النساء إلى المساجد وإقرار رسول الله r لهنّ، والخلفاء الراشدون من بعده. فيلزم على طريقة الشافعية الجمع بين النقيضين، فيحمل تفضيل صلاة المرأة في منزلها على صلاة النافلة. وقد أخرج البخاري (5\2266) و مسلم (1\539) في صحيحيهما حديث: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا الصلاة المكتوبة». أما الصلاة المكتوبة فلا ريب أنها صحيحة.

أما عند المالكية فهو منسوخٌ بإجماع أهل المدينة أيام الخلفاء الراشدين على خروج المرأة إلى المساجد. أما عند الأحناف فهذه الموضوعات التي يحتجون بها لا تعدو في أحسن الأحوال أن تكون خبر آحاد مخالفٍ للحديث المتواتر، ولعمل جمهور الصحابة. وهو في أمرٍ عمّت به البلوى. فلا ريب أنه يكون منسوخاً. فإن قيل كيف تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قلنا لأن الذي استقر آخر الأمر هو خروج النساء إلى المساجد.

قال الإمام ابن حزم في المحلى (4\201): «ثُمّ لو صحّ فيه أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجدها –وهذا لا يوجد أبداً من طريقٍ فيها خير– لَما كانت فيه حجة، لأنه كان يكون منسوخاً بلا شك، بما ذكرنا من تركِهِ –عليه السلام– لهُنّ يتكلّفن التكلُّف في الْغَبَشِ، راغباتٍ في الصلاة في الجماعة معه، إلى أن مات عليه السلام. فهذا آخر الأمر بلا شك».

وقال (3\137): ولا يجوز أن نقطع على نسخِ خبَرٍ صحيحٍ إلا بحجة. فنظرنا في ذلك، فوجدنا خروجهُنّ إلى المسجد والمُصلَّى عملاً زائداً على الصلاة وكُلفَةً في الأسحار والظُلمة والزحمة والهواجِر الحارة وفي المطر والبرد. فلو كان فضل هذا العمل الزائد منسوخاً، لم يخلُ ضرورةً من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن تكون صلاتها في المسجد والمُصلَّى مساوية لصلاتها في بيتها، فيكون هذا العمل كُله لغواً وباطلاً وتكلّفاً وعَناءً. ولا يمكن غير ذلك أصلاً. وهم لا يقولون بهذا. أو تكون صلاتها في المساجد والمصلى منحطّة الفضل عن صلاتها في بيتها –كما يقول المخالفون–، فيكون العمل المذكور كله إثماً حاطّاً من الفضل ولا بُد. إذ لا يحُطّ من الفضل في صلاة ما عن تلك الصلاة بعينها عملٌ زائد، إلا وهو محرّم. ولا يمكن غيرُ هذا. وليس هذا من بابِ تركِ أعمالٍ مستحَبة في الصلاة، فيَحُطّ ذلك من الأجر لو عمِلها. فهذا لم يأت بإثمٍ لكن ترك أعمال بِر. وأما من عمِلَ عملاً تَكلّفه في صلاته، فأتلف بعض أجرِهِ الذي كان يتَحَصَّلُ له لو لم يعملْهُ، وأحبط بعض عمَلِهِ، فهذا عملٌ محرّمٌ بلا شك. لا يمكن غيرُ هذا. وليس في الكراهة إثمٌ أصلاً ولا إحباطُ عمل. بل فيه عدم الأجر والوِزرِ معاً. وإنما الإثمُ إحباطٌ على الحرام فقط. وقد اتفق جميع أهل الأرض أن رسول الله r لم يمنع النساء قط الصلاة معه في مسجده إلى أن مات –عليه السلام–، و لا الخلافاء الراشدون بعده. فصح أنه عملٌ منسوخ. فإذْ لا شكّ في هذا، فهُوَ عملُ بِر. ولولا ذلك ما أقره –عليه السلام– ولا تركهن يتكلّفنه بلا منفعة، بل بمضرة. وهذا العُسرُ والأذى، لا النصيحة. وإذْ لا شكّ في هذا، فهو النّاسخُ، وغيرُهُ المنسوخ.

هذا لو صح ذاك الحديثان، فكيف وهما لا يصحان؟ روينا من طريق عبد الرزاق (ثقة) عن سفيان الثوري (ثبت) عن هشام بن عروة (ثقة): أن عمر بن الخطاب أمر سليمان بن أبي حثمة أن يؤمّ النساء في مؤخر المسجد في شهر رمضان. وعن عبد الرزاق (ثقة) عن معمر (ثبت) عن الزهري (ثبت فقيه): أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تحت عمر بن الخطاب، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: «والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا». فقالت: «والله لا أنتهي حتى تنهاني». قال عمر: «فإني لا أنهاك». فلقد طُعِنَ عمر يوم طُعِنَ وإنها لفي المسجد. قال ابن حزم: ما كان أمير المؤمنين يمتنع من نهيها عن خروجها إلى المسجد لو علم أنه لا أجر لها فيه. فكيف لو علم أنه يحطّ من أجرها ويحبط عملها؟! ولا حجة لهم في قوله لها: «إني لا أحب ذلك». لأن ميل النفس لا إثم فيه. وقد علم الله تعالى أن كل مسلم –لولا خوف الله تعالى– لأحب الأكل إذا جاع في رمضان، والشرب فيه إذا عطش، والنوم من الغدوات الباردة في الليل القصير عن القيام إلى الصلوات، ووطء كل جارية حسناء يراها المرء. فيحب المرء الشيء المحظور، لا حرج عليه فيه، ولا يقدر على صرف قلبه عنه. وإنما الشأن في صبره أو عمله فقط. قال تعالى: {كُتِبَ عليكُمُ القتالُ وهو كُرْهٌ لكم}. انتهى.

وقال ابن حزم في موضوع آخر: «ولو رأى عمر صلاتها في بيتها أفضل، لكان أقَلَّ أحوالِهِ أن يَجْبُرَهَا بذلك، ويقول لها: "إنك تدَعين الأفضل وتختارين الأدنى، لا سِيَّما مع أني لا أحب لك ذلك". فما فعل! بل اقتصر على إخبارها بهواه الذي لا يقدِرُ على صَرفه. ومن الباطل أن تختار –وهي صاحبة– ويدعَها هُوَ أن تتكلَّفَ إسخاطَ زوجِها فيما غيرُه أفضلُ منه! فصحّ أنهما رأَيا الفضل العظيم الذي يَسقُطُ فيه موافقة رضا الزوج، وأمير المؤمنين، وصاحب رسول الله r، في خروجها إلى المسجد في الغَلَسِ وغيره. وهذا في غاية الوضوح لمن عَقَل». وسرد آثاراً أخرى عن الصحابة ثم قال: «فهؤلاء أئمة المسلمين بحَضرة الصحابة. ثم على هذا عمَلُ المسلمين في أقطار الأرض جيلاً بعد جيل. وبالله تعالى التوفيق».