ابن الجوزي رجل واسع الاطلاع كثير التأليف جداً، لكنه قليل التحقيق صاحب أوهام كثيرة. فهو يحتج بروايات موضوعة بكثرة في أكثر كتبه (كصيد الخاطر وغيرها)، لكن ربما ينسب (في كتب أخرى) إلى الوضع أحاديث صحيحة ربما أخرجها مسلم وغيره. مع انحراف في العقيدة وتبديع وتشنيعٍ شديد على أهل السنة، وافتراءٍ على الإمام أحمد بن حنبل. فقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة (1\144): «ابن الجوزي –رحمه الله– تأثر بشيخه أبو الوفاء علي ابن عقيل الذي كان يتردد على ابن التبان وابن الوليد شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر عِلم الكلام. فظهر منه بعض الأحيان انحرافٌ عن السنة وتأوّلٌ لبعض الصفات، إلى أن مات رحمه الله».
ورغم تأثره الواضح بالمعتزلة، فإنه فقد أكثر في كتابه "صيد الخاطر" من ردوده على
الإمام الأشعري وأتباعه. مما دعا علي الطنطاوي الأشعري لأن يتتبع ابن الجوزي في
تحقيقه، ويدافع بشدة عن الأشعري، ويشنِّع على ابن الجوزي تعصباً للأشعري. والسبب هو
شدة اضطرابه في اعتقاده، بل في سائر علومه. فقد قال بقول أهل التأويل لا سيما في
كتابه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه". وقال بالتفويض في كتابه "تلبيس إبليس".
فتأمل كيف يجمع بين النقيضين ويرد على نفسه في موضعٍ آخر حتى لكأنه شخص مختلف.
ولذلك قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4\169): «لم يَثبت على قدم
النفي، ولا على قدم الإثبات. بل له من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أثبت به
كثيراً من الصفات التي أنكرها في هذا المُصنَّف». وقال في "درء التعارض" (9\160):
«فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله، كما يوجد لأبي حامد (الغزالي)
والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم».
والأسوء من ذلك أنه أضاف لكل تلك الأوهام ولكل ذلك الإضطراب، لساناً حاداً على غيره
من العلماء، مع أنه الأولى بالتشنيع. ومن ذلك مثلاً تهكمه بابن عبد البر الأندلسي
الذي هو خير من ملء الأرض من ابن الجوزي فِقهاً في الدين وسُنةً ودِرايةً بالحديث
ونقده. والعجيب أنه هو الذي كان يهاجم الخطيب البغدادي في تطاوله على الأئمة
الكبار. وقد عجِبَ سبطُ ابن الجوزي (يوسف بن قزغلي الحنفي الرافضي) من جده إذ تابع
الخطيب البغدادي، فقال في "مرآة الزمان": «وليس العجَبُ من الخطيب، فإنه طعن في
جماعة من العلماء. وإنما العجبُ من الجدِّ كيف سلك أسلوبه وجاء بما هو أعظم!».
وأما عن علم ابن الجوزي، فلا يخفى كثرة مآثرة ومؤلفاته. ولكن من كان لديه بالعلم
والتحقيق العلمي دراية، يعلم أن ابن الجوزي لم يكن من أئمة الفقه ولا الحديث، وإن
ألف فيهما ما ألّف. وإنما حصل له ذلك بكثرة اطلاعه وبحثه. قال السيوطي في طبقات
الحفاظ (1\480): قال الذهبي في التاريخ الكبير: «لا يُوصَفُ ابن الجوزي بالحفظ
عندنا باعتبار الصنعة، بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه». ورغم كثرة تآليفه في شتى
العلوم، فقد ضَعُفَ من ناحية التحقيق في أكثر العلوم التي ألّف فيها، ولا سيما في
الحديث. فتجد كلامه مخالفاً كثيراً لكلام حُفّاظِ الحديث. فالمفترض أن تكون كتبه
مراجع يستعملها طالب العلم المتمكن الذي يستطيع التمييز بين الصواب و الخطأ، فلا
تُنشر على العامة وصغار المتفقّهة.
قال الإمام موفق الدين عن ابن الجوزي: «كان حافظاً للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه
في السنة ولا طريقته فيها». وقال عنه الموفق عبد اللطيف: «وكان كثير الغلط فيما
يصنفه. فإنه كان يخلو من الكتاب ولا يعتبره». ذكر ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في
طبقات علماء الحديث (4\122). فقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (21\378): «هكذا هو:
له أوهامٌ وألوانٌ من ترْك المراجعة، وأخذ العِلم من صُحُف». قال الحافظ سيف الدين
بن المجد: «هو كثير الوهم جداً، فإن في مشيخته –مع صِغرها– أوهاماً». وقيل لإبن
الأخضر: ألا تجيب عن بعض أوهام بن الجوزي؟ قال: «إنما يُتتبع على من قل غلطه، فأما
هذا فأوهامه كثيرة». قال السيف: «ما رأيت أحداً يُعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله،
راضياً عنه». وقد عابه الكثير من أهل السنة فأصر على بدعته. وعاتبه أبو الفتح بن
المني في أشياء. ولما بان تخليطه أخيراً رجع عنه أعيان السنة، وذمّوه وتركوه.
وقال ابن حجر لسان الميزان (2|83) بترجمة ثمامة بن الأشرس البصري بعد قصة: «دلّت هذه
القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليلٍ لا ينتقد ما يحدّث به». قلت: فمثل هذا الرجل لا
يوثق بنقله ولا بكلامه.