منهج أبو داود

 

سكوت أبي داود

قال أبو داود في "رسالته في وصف تأليفه لكتاب السنن" (ص6): «وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح». قال السيوطي في "تدريب الرواي" (ص97): «فعلى ما نُقل عن أبي داود يُحتمل أن يريد بقوله "صالح": الصالح للاعتبار دون الاحتجاج، فيشمل الضعيف أيضاً». وقال النووي: «في سنن أبي داود أحاديثُ ظاهِرَة الضعف، لم يُبيّنها مع أنه متفقٌ على ضعفها. فلا بد من تأويل قوله: "وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح"». ثم ناقض النوويّ نفسَه في "شرح المُهذّب"، واحتج فيه بما سكت عليه أبو داود إطلاقاً، كعادة المتأخرين من تبيِيْنِ ضعف الحديث إن أيد خصومهم، مع السكوت عنه إن أيد مذهبهم.


قال ابن حجر في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (1\438): «ومن هنا يظهر ضعفُ طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود. فإنه يُخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج، ويسكت عنها، مثل ابن لَهيعة، وصالحٍ مولى التّوأمة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وَردان، وسَلَمة بن الفَضل، ودَلْهَم بن صالح، وغيرهم. فلا ينبغي للناقد أن يقلّده في السكوت على أحاديثهم». ثم قال ابن حجر عن أبي داود: «وقد يُخرج لمن هو أضعفُ من هؤلاء بكثير، كالحارث بن وجيه، وصَدَقة الدقيقي، وعثمان بن واقد العمري، ومحمد بن عبد الرحمان البَيْلَماني، وأبي جَنَاب الكلبي، وسليمان بن أرقم، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وأمثالِهم من المتروكين (وبعضهم كذابين). وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأسانيد التي فيها من أُبهمَت أسماؤهم. فلا يتجه الحكمُ لأحاديث هؤلاء بالحُسْنِ من أجل سكوت أبي داود».


قلت: ثم إنّ أبا عبيد الآجري في سؤالاته ينقل كثيراً من تضعيف أبي داود لبعض الأحاديث، وهو قد سكت عنها في سننه. فهذه أدلة قاطعة على أن ما سكت عنه أبو داود ليس بحجة.
 

منهجه في كتابه "السنن"

قال أبو داود: «كتبت عن رسول الله r خمس مئة ألف حديث. انتخبت منها ما ضمّنته هذا الكتاب (يعني كتاب السنن). جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمئة حديث. ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه».

 

قال الإمام أبو داود في "رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه" (ص22): «فإنكم سأَلتُم أن أذكُرَ لكم الأحاديث التي في كتاب السنن، أهي أصحّ ما عرفت في الباب؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم. فاعلموا أنه كذلك كله، إلا أن يكون قد رُوِيَ من وجهين صحيحين: فأحدُهما أقومُ إسناداً، والآخر صاحبه أقدم في الحِفظ. فربما كتبت ذلك. ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث. ولم أكتب في الباب إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح. فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته». وله كلامٌ أصرحُ من هذا في أنه قصد استيعاب الأحاديث الفقهية. فقال (ص26): «وقد ألفته نَسَقاً على ما وقع عندي. فإن ذُكِرَ لك عن النبي r سُنّةٌ ليس مما خرّجته، فاعلم أنه حديثٌ واهٍ، إلا أن يكون في كتابي من طريقٍ آخر. فإني لم أُخْرج الطرق، لأنه يكبُر على المتعلّم». وقال كذلك (ص27): «وهو كتابٌ لا تَرِدُ عليك سُنّةٌ عن النبي r بإسنادٍ صالحٍ، إلا وهي فيه. إلا أن يكون كلاماً استُخرِجَ من الحديث، ولا يكاد يكون هذا». ومن هنا قال بعض أهل العلم أن ما أورده أبو داود في سننه هو أصحّ ما وقف عليه في الباب. فإذا لم يورد في الباب سوى حديثاً ضعيفاً دلّ ذلك على أنّ كلّ الأحاديث الأخرى في ذلك الباب ضعيفة عنده.

 

وأبو داود فقيهٌ ضليعٌ لا يُستهان به. وهو أفقه صاحب الكتب الستة بعد البخاري. فإن معرفته الفقهية تجعله كفئاً لأن يجمع ويستوعب الأحاديث التي احتج بها الفقهاء. فتراه يقول (ص28): «وأما هذه المسائل –مسائل الثوري ومالك والشافعي– فهذه الأحاديث أصولها». وصرّح في آخر رسالته بأنه ما استوعب إلا الأحاديث الفقهية، فقد قال (ص34): «وإنما لم أصنّف في كتاب "السنن"، إلا الأحكام. ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها. فهذه الأربعة آلاف والثمانمئة (التي احتواها كتابه)، كلها في الأحكام. فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغيرها، هذا لم أخرجه». لكن فيه بعض أبواب لا تتعلق أصالة بالأحكام نحو "الحروف والقراءات" و"الملاحم" و"السنة" وغيرها. وهذا في الأحاديث المشهورة وليس الغريبة. فقد قال (ص29): «الأحاديثُ التي وضعتها في كتاب السنن، أكثرها مشاهير. وهي عند كلّ من كَتَبَ شيئاً من الحديث. إلا أن تمييزها، لا يقدر عليه كل الناس. والفخر بها أنها مشاهير. فإنه لا يُحتجّ بحديثٍ غريبٍ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العِلم».

 

كتابه له روايات عدة، ورواية اللؤلؤي هي المقدَّمة عند علماء المشرق. وسبب ذلك أن اللؤلؤي أطال ملازمة أبي داود، وكان هو الذي يقرأ السنن حينما يعرض أبو داود كتابه السنن على طلبة العلم إلى أن توفي أبو داود. أما رواية ابن داسة فإنها مشتهرة في بلاد المغرب أكثر من شهرتها في بلاد المشرق، وسبب تقديمهم لها أنها أكثر أحاديثاً من رواية اللؤلؤي فهي أكمل من رواية اللؤلؤي -حسب رأيهم-، لكن في الحقيقة أن الزيادات التي في رواية ابن داسة حذفها أبو داود في آخر حياته لشيء كان يريده في إسنادها. ذكر ذلك أبو عمر الهاشمي الراوي للسنن عن اللؤلؤي، والله أعلم.

 

هل صحيح أنه لا يروي إلا عن ثقة؟

يلهج الكثير من طلبة العلم بمقولة "أبو داود لا يروي إلا عن ثقة". على أن هذه ليست قاعدة مُطردة. لذلك قال الحافظ ابن القطان (وهو أول من وضع هذه القاعدة) في "بيان الوهم والإيهام" (5|39): «هذا لم نجده عنه نصاً، وإنما وجدناه عنه توقياً في الأخذ». والدليل على ما نقوله أبا داود نفسه ضعَّف وتكلم وغمز بعضاً من شيوخه الذين حدَّث عنهم في السنن. ومنهم: إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، قال أبو داود: «ليس بشيء». الحسين بن علي بن الأسود العجلي، قال أبو داود: «لا ألتفت إلى حكاياته، أراها أوهاماً». هشام بن عبد الملك بن عمران اليزني، قال أبو داود: «شيخ ضعيف»، وقال مرة: «شيخ مغفل». شعيب بن أيوب بن زريق الصريفيني، قال أبو داود: «إني لأخاف الله في الرواية عن شعيب بن أيوب». وكذلك سهل بن محمد بن عثمان السجستاني و حكيم بن سيف بن حكيم الأسدي. وقد يكون ممن ضعّفه غيره كذلك. سليمان بن عبد الحميد البهراني، قال النسائي: «كذاب ليس بثقة ولا مأمون». الحسين بن علي بن الأسود العجلي، قال ابن عدي: «يسرق الحديث، وأحاديثه لا يتابع عليها»، وقال الأزدي: «ضعيف جداً، يتكلمون في حديثه»، وقال ابن المواق: «رمي بالكذب وسرقة الحديث».