الوجيز في منهج السلف
للشيخ: عبد القادر الأرناؤوط

تعريف الوجيز لغة:

يقال: أوجز الكلام: قصّره وقلله، أي اختصره، وكلام وجز ووجيز. والوَجْز: الخفيف المقتصد من الكلام والأمر. والوجْزُ: الشيء الموجز، كالوجيز.


تعريف المنهج لغة وشرعا:  
النهج، والمنهج، والمنهاج: الطريق الواضح البيّن. قال الله تعالى في كتابه العزيز: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) المائدة 48. أي: شريعة وطريقا واضحا بينا. فإنه سبحانه وتعالى جعل لكل أمة شرعا ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة. فهي شرائع مختلفة في الأحكام، متفقة في توحيد الله عز وجل، كما قال رسول الله
r: " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيني وبين عيسى نبي " رواه البخاري في "صحيحه" في كتاب الأنبياء، باب: ( واذكر في الكتاب مريم )، ومسلم في "صحيحه" رقم 2365 في كتاب الفضائل، باب فضل عيسى عليه السلام، من حديث أبي هريرة t. والمعنى أنهم متفقون في أصول التوحيد لله عز وجل، وأما فروع الشرائع، فوقع فيها الاختلاف، فشرائعهم مختلفة. قال الله تعالى في كتابه الكريم لرسوله r: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) الأنبياء 25. وقال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) النحل36، هذا في توحيد الله عز وجل، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي.

تعريف السلف لغة وشرعا:  السلف: ما مضى وتقدم، يقال: سلف الشيء سَلَفا: مضى، وسلف فلان سلفا: تقدم، والسالف: المتقدم. والسلف: الجماعة المتقدمون. والسلف: القوم المتقدمون في السير، قال الله تعالى في كتابه العزيز: ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) الأعراف 55-56، أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفا متقدمين لمن عمل بعملهم، ليعتبر من بعدهم وليتعظ بهم الآخرون.

والسلف: كل عمل صالح قدّمته، يقال: قد سلف له عمل صالح. والسلف: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل، واحدهم سالف.  
ومنه قول طُفيل الغنوي يرثي قومه:  

مضوا سلفا قصد السبيل عليهم +وصرف المنايا بالرجال تقلّب

أي نموت كما ماتوا، فنكون سلفا لمن بعدنا كما كانوا سلفا لنا. وعن الحسن البصري أنه كان يقول في صلاة الجنازة على الصبي: اللهم اجعله لنا سلفا. ولهذا سُمي الصدر الأول السلف الصالح.

ورسول الله وصحابته التابعون لهم بإحسان، هم سلف الأمة، وكل من يدعو إلى مثل ما دعا إليه رسول الله r وصحابته التابعون لهم بإحسان، هم سلف الأمة، وكل من يدعو إلى مثل ما دعا إليه رسول الله r وصحابته والتابعون لهم بإحسان فهو على نهج السلف الصالح، ويجب على جميع المسلمين أن يتبعوا الكتاب الكريم، والسنة المُطهرة بالرجوع إلى فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، فإنهم أحق بالإتباع ؛لأنهم كانوا صادقين في إيمانهم، أقوياء في عقيدتهم، مخلصين في عبادتهم.

والسلف الصالح إمامهم رسول الله محمد r الذي أمرنا الله تعالى باتباعه في كتابه بقوله: ( وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر7. وهو الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )الأحزاب 21. وهو الذي ينطق بالوحي من السماء، قال تعالى: ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) النجم 3-4

وأمرنا تعالى أن بحكّمه في كل شأن من شؤون حياتنا فقال: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) النساء 65. وحذرنا تعالى من مخالفته فقال: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) النور 63.

ومرجع السلف الصالح عند التنازع: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله r. قال تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )النساء 59  ورسول الله r مبلّغ عن ربه، ومبين لكتابه. قال تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ) النحل 44 وقال رسول الله r في حديثه: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".

وأفضل السلف بعد رسول الله r، الصحابة الذين أخذوا دينهم عن رسول الله r بصدق وإخلاص، كما وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) الأحزاب 23. وهم الذين عملوا بأعمال البر التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) البقرة 177. وهذه الآية هي آية التدين الصادق الذي اتصف الصحابة به رضي الله عنهم، فكتاب الله تعالى دستورهم ونظامهم ثم السنة بعده، وهي أبرك العلوم وأفضلها وأكثرها نفعا في الدين والدنيا بعد كتاب الله عز وجل، وهي كالرياض والبساتين، تجد فيها كل خير وبر، ثم بعد السنة ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.

والسلف الصالح أيضا: القرون الخيرة المفضلة التي قال فيها رسول الله r في حديثه: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". وقال: " ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السـِّمَنُ ".

فأصول الدين التي استمسك بها هؤلاء الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين، ودعوا الناس إليها: هي أنهم يؤمنون بالكتاب والسنة إجمالاً وتفصيلاً، ويشهدون لله عز وجل بالوحدانية، ولمحمد r بالنبوة والرسالة، ويعرفون ربهم بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسول الله r، على ما وردت به الأخبار الصحيحة ونقله عنه العدول والثقات، ويثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، من غير تشبيه بمخلوقاته، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تمثيل، قال تعالى: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) الشورى 11. قال الإمام الزهري: " على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ".

وقال الإمام سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. وقال الإمام الشافعي: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله "

وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، وكلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله تعالى وسنة رسوله r من غير تعرُّض لتأويله، وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم. وحذرنا رسول الله r من المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال في حديثه: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ضلالة ". وقد تقدم الحديث وتخريجه. وقال عبد الله بن مسعود t: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ". وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا." وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول ".

ومن عقائد السلف الصالح قولهم: الإيمان قول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، وعقد بالقلب والجنان، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.

ومن عقائد السلف: أن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ولكن ليس الشر بأمره تعالى، كما يقول بعضهم: كله بأمر الله ؛ لأن الله تعالى أمر بالخير، ونهى عن الشر، وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وإنما ينهى عنها، والإنسان غير مجبر، يختار أفعاله وعقائده، ويستحق العقاب أو الثواب على حسب اختياره، وهو مختار في الأمر والنهي، قال تعالى: ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) الكهف 29.

ومن عقائد السلف: أنهم لا يكفرون أحدا من المسلمين بذنب، ولو كان من الكبائر، إلا إذا جحد شيئاً معلوما من الدين بالضرورة، ويعلمه الخاص والعام، وكان ثابتاً بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.

ومن عقائد السلف الصالح: أنهم يعبدون الله تعالى ولا يشركون به شيئاً، فلا يسألون إلا الله تعالى، ولا يستعينون إلا بالله عز وجل، ولا يستغيثون إلا به سبحانه، ولا يتوكلون إلا عليه جلّ وعلا، ويتوسلون إلى الله بطاعته وعبادته والقيام بالأعمال الصالحة، لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) المائدة 35. أي تقربوا إليه بطاعته وعبادته.

ومن عقائد السلف الصالح: أن الصلاة جائزة خلف كل بر وفاجر إذا كان ظاهرها صحيحا. ولا نجزم لأحد كائنا من كان بجنة ولا نار إلا من جزم له رسول الله r، ولكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.

ونشهد للعشرة المبشرين بالجنة، كما شهد لهم النبي r، وكل من شهد له النبي r بالجنة شهدنا له بها، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ونتولى أصحاب رسول الله r، ونكف عن مساويهم، وما شجر بينهم، وأمرهم إلى ربهم، ولا نسبُّ أحداً من الصحابة لقوله r: " لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه " وأن الصحابة ليسوا بمعصومين عن الخطأ، والعصمة لله تعالى ورسوله r في التبليغ، وأن الله تعالى عصم مجموع الأمة عن الخطأ، لا الأفراد، كما قال r في حديثه: " إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة، ويد الله على الجماعة ". ونترضى عن أزواج رسول الله r أمهات المؤمنين، ونعتقد أنهن مطهرات مبرآت من كل سوء.

ومن عقائد السلف الصالح: أنه لا يجب على أحد من المسلمين التقيد بمذهب فقيه معين، وأن له أن ينتقل من مذهب إلى آخر لقوة الدليل، وأن العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه. وأن على طالب العلم إذا كانت عنده أهليه يستطيع أن يعرف بها أدلة الأئمة أن يعمل بها، وينتقل من مذهب إمام في مسألة إلى مذهب إمام آخر أقوى دليلاً وأرجح فقهاً في مسألة أخرى، ويكون بذلك متبعاً وليس بمجتهد، فإن الاجتهاد استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، كما كان عليه الأئمة الأربعة وسواهم من الفقهاء والمحدثين.

ومن عقائد السلف الصالح: أن الصحابة الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، هم الخلفاء الراشدون المهديون، وفيهم كانت خلافة النبوة ثلاثين عاما مع خلافة الحسين رضي الله عنهم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلك بعد ذلك ".

ومن عقائد السلف الصالح: أنه يجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن وأمرنا الله تعالى به، وترك كل ما نهانا عنه جملة وتفصيلا، ونؤمن بكل ما أخبر به النبي r، وصح النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، سواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه، نأتمر بأمر الله تعالى وأمر رسوله r، وننتهي عما نهانا الله تعالى ونهانا عنه رسول الله r، ونقف عند حدود كتاب الله تعالى وسنة رسول الله r، وما جاء عن الخلفاء الراشدين المهديين، وعلينا اتباع ما جاء به رسول الله r من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وسلوك طريق رسول الله r وما كان عليه الخلفاء الراشدون الأربعة المهديون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، لأن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة النبوية.

قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: " سن لنا رسول الله r وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمرٍ خالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً ".

وهذا مصداق قول رسول الله r: " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ". وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله r: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ "، ففيه تحذير من اتباع الأمور المحدثة في الدين والعبادة، والمراد بالبدعة: ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان يطلق عليه بدعة لغة، فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل يرجع إليه فهو ضلالة، والدين برئ منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات والأعمال والأقوال.

وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر بن الخطاب t لما جمع الناس على قيام رمضان " صلاة التراويح " على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون قال " نعمت البدعة هذه "، فقد كان لها أصل في الشرع، وقد صلاها رسول الله r جماعة في المسجد، ثم تركها خشية أن تفرض على أمته فيعجزوا عن القيام بها، وقد أُمن هذا بعد وفاته r، فأحياها عمر رضي الله عنه، وأما ما كان ثابتاً في العبادات فلا يجوز الزيادة فيه.

فالأذان مثلا يبقى على كيفيته المشروعة دون زيادة ولا نقصان، والصلاة تبقى على كيفيتها المشروعة ؛ لأن الرسول r قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وهو حديث صحيح رواه البخاري في " صحيحه ". والحج يبقى على كيفيته المشروعة ؛ لأن رسول الله r قال: " خذوا عني مناسككم ". هذا وقد فعل المسلمون أشياء لم تكن في زمن رسول الله r، ولكنها ضرورية لحفظ الإسلام، وقد أجازوها وسكتوا عنها، كجمع عثمان بن عفان t الأمة على مصحف واحد خشية تفريق الأمة، وقد استحسنه الصحابة، وكان ذلك عين المصلحة، ومثل كتابة الحديث النبوي الشريف خشية ضياعه بموت أهله، وكتابة تفسير القرآن، والحديث، وتأليف على النحو لحفظ اللغة العربية التي هي وسيلة لفهم الإسلام، وتأليف علم مصطلح الحديث، فهذه جائزة لحفظ الشريعة الإسلامية، والله تعالى تكفل بحفظ شريعته بقوله: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) الحجر 9.

وقال رسول الله r في حديثه: " يحمل هذا العلم من كل خَلَف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين " وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

هذه هي عقيدة الرعيل الأول من هذه الأمة، وهي العقيدة الصافية صفاء الماء العذب، القوية قوة الجبال الرواسي، المتينة متانة العروة الوثقى، وهي العقيدة السليمة، والطريقة المستقيمة على نهج الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة وأئمتها، وهي الطريق الذي أحيا قلوب الأوائل من هذه الأمة، وهي عقيدة السلف الصالح والفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة، وهي عقيدة الأئمة الأربعة وأصحاب المذاهب المشهورة المتبعة وأكثر أتباعهم، وعقيدة جمهور الفقهاء والمُحدثين والعلماء العاملين، ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين، وإنما غيّر من غيّر من أقوالهم بعض المتأخرين الذين انتسبوا إلى مذاهبهم، فعلينا أن نعود بالعقيدة الصافية إلى منابعها التي نهل منها الأخيار من سلفنا الصالح، فنسكت عما سكتوا، ونؤدي العبادة كما أدَّوها، ونلتزم الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها والقياس الصحيح في الأمور المتجددة.

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " الأذكار ": واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم، وهذا هو الحق، ولا تغترن بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض رحمه الله ما معناه: " الزم طرق الهدى ولا يضرك قِلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغترن بكثرة الهالكين ".

وهذا هو السبيل الوحيد الذي سيصلح بقية الأمة، وصدق الإمام مالك بن أنس رحمه الله عالم أهل المدينة المنورة إذ يقول: " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ".

هذا ولن يعدم الخير في هذه الأمة، لأن رسول الله
r قال في حديثه: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ".

هذا وقد قرر عقيدة السلف الصالح جمع كبير من العلماء منهم أبو جعفر الطحاوي، وقد شرح عقيدته ابن أبي العز الحنفي، أحد تلامذة ابن كثير الدمشقي، وسماه " شرح العقيدة الطحاوية "، ومنهم أبو الحسن الأشعري في كتابه " الإبانة عن أصول الديانة "، وهي العقيدة التي استقر عليها أخيرا، وقال: " قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله عز وجل، وبسنة نبينا
r، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون ". ومن الذين كتبوا في عقيدة السلف الصالح الصابوني في كتابه " عقيدة السلف "، ومنهم موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه " لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد "، وغيرهم من العلماء الأجلاء، جزاهم الله تعالى خيرا.

نسأل الله تعالى أن يهدينا للعقيدة الصافية، والسريرة النقية الطاهرة، والأخلاق الفاضلة المرضية، وأن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب. ونسأله تعالى أن يلهمنا الصواب في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

خادم السنة النبوية أبو محمود عبد القادر الأرناؤوط.

والله من وراء القصد,